الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {واضرب لهم مثلًا أصحاب القرية}

          ░42▒ (بابٌ) بالتنوين ({وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس:13] الآيَةَ) كذا في أكثرِ الأصولِ، ووقعَ في بعضِهَا إسقاطُ: <باب> فقط، وقال: قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:13-14] هذه الآيةُ في أوائل يس، وقال القسطلانيُّ: وعلى الباب وتاليهِ... إلخ علامةُ السُّقوطِ في الفرعِ وأصلهِ، من غيرِ عَزْوٍ، فقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} أي: واضربْ لأجلِهِم.
          وقيل: واضربْ لأجلِ نفسِكَ لتتسلَّى بما وقعَ لغيركَ، وقال البَيضَاويُّ: ومثِّل لهم، من قولِهِم هذه الأشياءُ على ضَربٍ واحدٍ؛ أي: مثال واحدٍ، وهو يتعدَّى لمفعولين؛ لتضمُّنِه معنى الجعلِ، وهما: {مَثَلاً} و{أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} وأصحاب على حذفِ مضافٍ؛ أي: اجعل لهم مثلَ أصحابِ القريةِ مثلاً، قال: ويجوزُ أن يقتصرَ على واحدٍ ويجعل المقدَّر بدلاً من الملفُوظِ أو بياناً لهُ، والقرية: أنطاكية، وعزَاها في ((الفتحِ)) لابن إسحاق ولوهبٍ في ((المبتدأ))، قال: ولعلها كانت مدينةً بالقربِ من هذهِ الموجودةِ؛ لأنَّ الله تعالى أخبرَ أنَّه أهلك أهلَهَا وليس لذلك أثرٌ في هذه المدينةِ الموجُودةِ الآن. انتهى.
          وأقول: يؤيِّده مَا أخبرَنا به بعضُ أهلِ أنطَاكيةَ حينَ اجتمعنَا به في دمشقَ واستجَازنا في الحديثِ أنَّ بقربهَا مدينةٌ يقال لها: أنطاكية العتيقَة خاربةٌ.
          {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} بدلٌ من أصحاب القريةِ، والمرسلون جمعُ مرسلٍ وهم رسلُ عيسى عليه السلامُ إلى أهلها، {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} قال البيضَاويُّ: هما يحيى ويونس عليهمَا السَّلام، وقيل: غيرهما، انتهى.
          وقال ابنُ إسحاق: قاروص وماروص، وقال مقاتلٌ: تومان ومالوس، وقال كعبٌ: صادق وصدوق، واسم الرَّسول: شمعون الصفا رأسُ الحواريِّين، وهو قول أكثرِ المفسِّرين.
          وقال كعب: اسمه شلوم، وقال مقاتلٌ: سمعان، وقيل: بولس.
          وقال في ((الفتح)): وروى الثوريُّ في ((تفسيرهِ)) عن أبي مجلزٍ أنَّ اسمَه حبيبُ بن بري، وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ اسمَه حبيب النجَّار، وحكى ابنُ جريجٍ: أنَّ اسم الرَّسولَين: شمعون ويوحنَّا، واسمُ الثالث: بولص، وذكر البَيضَاويُّ وغيرهُ قصَّة المرسلينَ مفصَّلة.
          قال العينيُّ: وكان إرسالُهم في زمنِ ملوكِ الطَّوائفِ، وقال في ((الفتح)) روى الطبرانيُّ عن ابن عباسٍ مرفوعاً: ((السبق ثلاثةٌ: يوشع إلى موسَى، وصاحبُ يس إلى عيسَى، وعليٌّ إلى محمدٍ))، قال: وفي إسناده ضعيفٌ فإن ثبَتَ دلَّ على أنَّ القصَّة كانتْ في زمنِ عيسَى أو بعدَهُ، قال: وصنيعُ البُخاريِّ يقتَضِي أنَّها قبلَ عيسَى عليه السَّلام، انتهى.
          ({فَعَزَّزْنَا}) بتشديد الزَّاي الأولى، قال البَيضَاويُّ: وقرأَ أبو بكرٍ مخفَّفاً من عززَهُ إذا غلبَه وحذفَ المفعول لدلالةِ ما قبلَهُ عليهِ لأنَّ المقصودَ ذكرُ المعززِ به (قَالَ مُجَاهِدٌ) فيما وصلَهُ الفريابيُّ، وفي بعض الأصولِ تأخيرُ {فَعَزَّزْنَا} عن ((قَالَ مُجَاهِدٌ)) (شَدَّدْنَا) هذا تفسيرٌ لعزَّزنا بتشديد الدَّال الأولى ويجوزُ تخفيفها بمعنى: قوَّينا بثالثٍ، وتقدَّم آنفاً ما قيلَ فيه وفي ((المرسلون)).
          (وَقَالَ / ابْنُ عَبَّاسٍ) فيما وصلهُ ابنُ أبي حاتم ({طَائِرُكُمْ} مَصَائِبُكُمْ) بالهمزةِ جمع مصيبةٍ فسَّره غيرُ ابن عبَّاسٍ بقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ} [يس:19]؛ أي: شؤمُكُم معكُم وهو كفرهُم، ولعلَّه أولى لما فيهِ من المطابقةِ بالإفرادِ فيهما.
          وأقول: وجهُ ما قاله ابنُ عباسٍ: أنَّ {طَائِرُكُمْ} مفردٌ مضَافٌ فيعمُّ، وقال البَيضَاويُّ: أي: سببُ شؤمِكُم معكُم وهو سوءُ عقيدَتكُم وأعمَالِكُم، قال: ▬وقُرئ طيركم↨ ولم يذكر البخاريُّ في هذا البابِ حديثاً لعدمِ وجودهِ على شرطهِ، ولعلَّه يشيرُ إلى ما رواه الطبرانيُّ من حديثِ ابن عبَّاسٍ مرفوعاً المار آنفاً بلفظِ: السبق.