الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث الخضر مع موسى عليهما السلام

          ░27▒ (بَابُ حَدِيثِ): أي: بيان حديث (الخَضِرِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ): والأولى زيادة الصَّلاة، وسقطَ من بعضِ الأصُولِ: <عليهما السَّلام> كذا في أكثرِ الأصُولِ الَّتي رأينَاها، وعزاهَا القسطلانيُّ لأبي ذرٍّ، وسقَطَ لغيرهِ لفظ: <باب> فقط، وثبتَتِ التَّرجمةُ في جميعِ الأصُولِ، والغرضُ منها بيان حال الخضِرِ مع موسى وبالعكسِ، وتقدَّم بيان نسَب موسى عليه السَّلام وبعض شيءٍ من أحوالهِ، ولنذكرْ نسبَ الخضرِ عليه السَّلام وبيان بعض أحوالهِ المتعلِّقة بموسى وغير ذلك، كالخلافِ في نبوَّته وتعميرهِ.
          وفي ذلك بيانٌ في الجملةِ لأحوالِ موسى فنقول: خَضِر ويقال فيه: الخَضِر، بأل التي للَّمح، وهو بفتح الخاء وكسر الضَّاد المعجمتَين، ويجوز تسكين الضَّاد مع فتح الخاء وكسرها، فهذا لقبٌ له اشتهرَ به؛ لأنَّه كان إذا جلسَ على أرضٍ المعبَّر عنها بفروةٍ في روايةٍ اخضرَّ ما حوله.
          وكنيتُه: أبو العبَّاس.
          وأمَّا اسمه العلم: فاختُلِف فيه وفي أبيه فقال وهبُ بن منبِّه: هو بَلْياء _بفتح الموحَّدة وسكون اللَّام فتحتيَّة مفتوحة فألف ممدودة_،ممنوعٌ من الصَّرف لألف التَّأنيث الممدودة، وقال الكرمانيُّ: مقصُورة، وقد يدلُّ لكونها ممدودةً قول ((الفتح)): ووُجِد بخطِّ الدِّمياطيِّ في أوَّل الاسم نقطتَين، وقيل: كالأوَّل بزيادة ألفٍ بعد الفاء، انتهى.
          فإنَّه حينئذٍ يجتمع ألفان فقُلِبت الثَّانية همزة، فتأمَّل، وقوله: في أوَّل الاسم نقطتَين؛ أي: فيصير يلياء فليراجع ((تهذيب النوويِّ)).
          ابن مَلْكَان _بفتح الميم وسكون اللَّام وبفتح الكاف فألف فنون_،ممنوعٌ من الصَّرف أيضاً للعلميَّة وزيادة الألف والنُّون، ابنُ فالغِ بنِ عابرِ بنِ شالخِ بنِ أرفخشد بنِ سام بنِ نوحٍ.
          قال في ((الفتح)): فعلى هذا مولدُه قبلَ إبراهيم الخليل؛ لأنَّه كان ابن عمِّ جدِّ إبراهيم عليه السَّلام، وحكى الثَّعلبيُّ قولين: في أنَّه كان قبلَ الخليل أو بعدَه، وقيل: اسمه: إلياس، وهو غير إلياس النبيُّ المشهور، ووهمَ من زعمَ الاتِّحاد، وقيل: اسمه أحمدُ ويناسبُه تكنيته بأبي العبَّاس.
          وقال مجاهدٌ: اسمه: اليسعُ بن ملكان، إلى آخر النَّسب المارِّ آنفاً، وقال مقاتلٌ: بلياءُ بن ملكانَ بن يقطنَ بن فالغَ... إلخ، وقال كعبٌ: اسمه: إيليا بن ملكانَ...إلخ، وقيل: خضرون بن عميائيل بن ليغر بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.
          وقال ابنُ إسحاق: أرميا بن حلقيا، من سِبْطِ هارونَ بن عمرانَ، وأنكرهُ الطَّبريُّ، وقال: أرميا كانَ في زمن بختنصَّر، وبين بختنصَّر وموسَى زمانٌ طويلٌ، وقيل: خضرون بن قابيل بن آدم عليه السَّلام، وقيل: خضرون بن عائيل بنِ معمر بنِ عيصو بنِ إسحاق بنِ إبراهيم، وقيل: معمرُ بنُ مالكِ بنِ عبدِ الله بنِ نصر بنِ الأزدِ، وقيل: اسمه إِرميا _بكسر الهمزة_،وقيل: بضمِّها، وأشبعها بعضُهم واواً، وقيل: / أرميا بن طبقا، حكاهُ ابنُ إسحاق عن وهبِ بن منبِّه، وقيل: ابن آدم لصُلبه نُسِئ له في أجَلهِ حتى يكذِّبَ الدجَّال، رواه الدارقطنيُّ في ((الأفراد)) عن ابن عبَّاس.
          قال في ((الفتح)): وهذا ضعيفٌ منقطعٌ، قال: وذكرَ أبو حاتمٍ السجستانيُّ في ((المعمَّرين)) أنَّه ابن قابيل بن آدم، رواهُ عن أبي عُبيدة وغيره، وقال الطبرانيُّ: الخضرُ هو الرَّابع من ولد إبراهيم لصُلبه، وقال مجاهدٌ: هو من ولد يافث، وكان وزيرَ ذي القرنَين، وقال ابنُ لهيعة: هو ابنُ فرعونَ صاحب موسى لصُلبهِ، وقيل: ابن بنت فرعون، وهما غريبان، وقال في ((القاموس)): فرعونُ لقبُ الوليد بن مصعبٍ صاحب موسى عليه السَّلام، ووالدُ الخضر أو ابنه، فيما حكاه النقَّاش وتاج القرَّاء في ((تفسيرَيهما))، انتهى.
          وقيل: هو أخو إلياس، روى الحافظُ ابنُ عساكر بسندِه إلى السُّدِّي أنَّ الخضِرَ وإلياسَ كانا أخوَين، وكان أبوهما ملِكاً، وروى ابنُ عساكرَ عن سعيد بن المسيَّب: أنَّ أمَّ الخضِرِ روميَّةٌ وأبوه فارسِيٌّ، قال في ((الفتح)): وحكى ابنُ ظفرٍ في ((تفسيره)) أنَّه كان من ذريَّة مَن آمن بإبراهيم، وقيل: إنه الذي أماته الله مائة عامٍ ثمَّ بعثه، فلا يموت حتَّى يُنفَخ في الصُّور، قال: وروى عبد الرزَّاق في ((مصنَّفِه)) عن معمَرٍ في قصةِ الذي يقتلُه الدَّجالُ ثمَّ يُحييه أنَّه قال: بلغَني أنَّه الخضِرُ، وروى ابنُ إسحاقَ في ((المبتدأ)) عن أصحابِه أنَّ آدمَ أخبرَ بَنِيه عند الموتِ بأمرِ الطُّوفان، ودعا لمَنْ يحفَظُ جسَدَه بالتَّعميرِ حتى يدفِنَه، فجمعَ نوحٌ بَنِيه لمَّا وقعَ الطُّوفانُ وأعلمَهم بذلك، فحفِظُوه حتى كانَ الذي تولَّى دفنَه الخضِرَ.
          وروى خَيثمةُ بنُ سليمانَ من طريقِ جعفرٍ الصَّادقِ عن أبيه: أنَّ ذا القرنَين كانَ له صديقٌ من الملائكةِ، فطلبَ منه أنَّه يدلُّه على شيءٍ يطولُ به عُمرُه، فدلَّه على عينِ الحياةِ، وهي داخلَ الظُّلمةِ، فسارَ إليها والخضِرُ على مقدِّمتِه، فظفرَ بها الخضِرُ، ولم يظفَرْ بها ذو القرنَينِ.
          ورويَ عن مكحولٍ عن كعبِ الأحبارِ قال: أربعةٌ من الأنبياءِ أحياءٌ أمانٌ لأهلِ الأرضِ، اثنانِ في الأرضِ: الخضِرُ وإلياسُ، واثنانَ في السَّماء إدريسُ وعيسى، والأكثرونَ على أنَّه نبيٌّ كما حكاه ابنُ عطيَّةَ والبغويُّ وغيرُهما، وهو الصَّحيحُ، ثمَّ اختلفُوا هل هو رسولٌ أم لا.
          وقال القرطبيُّ: هو نبيٌّ عند الجمهورِ، وآيةُ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] تشهدُ بذلك، وكذا آيةُ: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] لأنَّ النبيَّ لا يتعلَّمُ ممَّن هو دونَه، ولأنَّ الحكمَ بالباطنِ لا يطَّلعُ عليه إلا الأنبياءُ عليهم السلام.
          وأُجيبَ باحتمالِ الإيحاءِ بذلك إلى نبيٍّ من أنبياءِ ذلك الزَّمانِ أن يأمرَ الخضِرَ به، وحكَى السُّهيليُّ عن طائفةٍ من أهلِ العلمِ أنَّه ملَكٌ من الملائكةِ، وليس من بني آدمَ، وهو غريبٌ جداً، بل باطلٌ، وقالت طائفةٌ منهم القُشيريُّ: إنَّه وليٌّ من أولياءِ اللهِ تعالى، ونقَلَ عن عليٍّ ☺ أنَّه قال: كان عبداً صالحاً، وعلى جميعِ الأقوالِ فهو حيٌّ معمَّرٌ إلى قربِ الساعةِ عند الجمهورِ.
          ففي ((الفتح)): قال الثعلبيُّ في ((تفسيرِه)): هو معمَّرٌ على جميعِ الأقوالِ، محجُوبٌ عن الأبصارِ، قال: وقيل: لا يموتُ إلا في آخرِ الزَّمانِ حتى يُرفعَ القرآنُ، وقال ابنُ الصَّلاحِ: هو حيٌّ عند جمهورِ العلماءِ، والعامَّةُ معهم في ذلك، وإنما شذَّ بإنكارِه بعضُ المحدِّثين، انتهى.
          وأقولُ: هذا قد يدلُّ على أنَّ بعضَهم أنكرَ وجودَ الخضِرِ أصلاً، فتدبَّر.
          ووافقَ النوويُّ ابنَ الصَّلاحِ، / وزادَ أنَّ ذلك متَّفقٌ عليه بين الصُّوفيَّةِ وأهلِ الصَّلاحِ، قال: وحكاياتُهم في رؤيتِه والاجتماعِ به أكثرُ من أن تُحصرَ، انتهى.
          وزادَ غيرُه من الصُّوفيَّةِ: ابنُ أدهمَ وبِشرٌ الحافيُّ ومعروفٌ الكَرْخيُّ والسَّرِيُّ السَّقَطيُّ والجُنيدُ، وبه قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ.
          وقال في ((الفتح)): والذي جزمَ بأنَّه غيرُ موجودٍ الآن البخاريُّ، وإبراهيمُ الحربيُّ، وأبو جعفرٍ المنادي، وأبو يعلى الفرَّاءُ، وأبو طاهرٍ العبَّاديُّ، وأبو بكرِ بنُ العربيِّ، وطائفةٌ.
          قال: وعُمدتُهم الحديثُ المشهورُ عن ابنِ عمرَ وجابرٍ وغيرِهما أنَّ النبيَّ صلعم قال في آخرِ حياتِه: ((لا يبقى على وجهِ الأرضِ بعد مِائةِ سنةٍ ممَّن هو عليها اليومَ أحدٌ)).
          وقال العينيُّ: وروى أحمدُ عن جابرٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلعم قبل موتِه بقليلٍ أو بشهرٍ: ((ما من منفوسةٍ أو ما منكم اليومَ من نفسٍ منفوسةٍ يأتي عليها مِائةُ سنةٍ وهي يومَئذٍ حيَّةٌ)).
          وأجابَ الجمهورُ عن الآيةِ بأنْ لم ندَّعِ أنَّه يخلَّدُ، وإنَّما يبقى إلى انقضاءِ الدنيا، وعن حديثِ جابرٍ بأنَّه متروكُ الظاهرِ؛ لأنَّ جماعةً عاشُوا أكثرَ من مِائةِ سنةٍ؛ كسَلمانَ الفارسيِّ، فإنَّه عاشَ ثلاثَمِائةِ سنةٍ، وعاشَ حكيمُ بنُ حِزامٍ مِائةً وعشرين سنةً.
          وقال في ((الفتح)) أيضاً: ورويَ عن عليٍّ أنَّه دخلَ المطافَ، فسمِعَ رجلاً يقولُ: يا مَن لا يشغَلُه سمعٌ عن سمعٍ... الحديثَ، فإذا هو الخضِرُ، قال: روى عنه ابنُ عساكرَ من وجهَينِ في كلٍّ منها ضَعفٌ، انتهى.
          وأقول: ذكرَه السيوطيُّ تامًّا في ((الدُّرِّ المنثورِ)) وأخرجَ الخطيبُ وابنُ عساكرَ عن عليِّ / بنِ أبي طالبٍ قال: بينا أنا أطوفُ في البيتِ إذا رجلٌ معلَّقٌ بأستارِ الكعبةِ يقولُ: يا مَن لا يشغلُه سمعٌ عن سمعٍ، ويا مَن لا تغلِطُه المسائلُ، ويا مَن لا يتبرَّمُ بإلحاحِ الملحِّين، أذِقْني بردَ عفوِك وحلاوةَ رحمتِك، قلتُ: يا عبدَ اللهِ؛ أعِدِ الكلامَ، قال: وسمعتَه؟ قلتُ: نعم، قال: والذي نفسُ الخضِرِ بيدِه _وكان هو الخضِرُ_؛ لا يقولُهنَّ عبدٌ دُبرَ الصلاةِ المكتوبةِ إلا غفَرتُ ذنوبَه وإن كانت مثل رملٍ عالجٍ وعددَ المطرِ وأوراقِ الشجرِ، انتهى.
          وإنما أشارَ عليه السَّلامُ إلى زمانِه، وبأنَّه خرجَ من الحديثِ لكونِه كان على وجهِ البحرِ، واستُثنيَ ممَّا سبقَ.
          قال في ((الفتح)): وروى البيهقيُّ من طريقِ الحجَّاجِ بنِ قَرافِصةَ أنَّ رجلَينِ كانا يتَبايَعانِ عند ابنِ عمرَ، فقامَ فيهم رجلٌ، فنهاهم عن الحلِفِ باللهِ ووعظَهُم بموعِظَةٍ، فقال ابنُ عمرَ لأحدِهما: اكتُبْها منه، فاستعَادَه حتى حفِظَها، ثمَّ تطلَّبَه فلم يرَهْ، قال: وكانوا يرَونَ أنَّه الخضِرُ عليه السَّلام.
          قال: وأخرجَ ابنُ عَديٍّ بسندٍ ضعيفٍ عن عَمرِو بنِ عوفٍ: ((أنَّ النبيَّ صلعم سمعَ كلاماً وهو في المسجدِ، فقال: يا أنسُ؛ اذهَبْ إلى هذا القائلِ، فقل له يستغفِرْ، لي فذهَب إليه، فقال: قل له: إنَّ اللهَ فضَّلَك على الأنبياءِ بما فضَّلَ به رمضانَ على الشُّهورِ، قال: فذهبُوا ينظُرونَ فإذا هو الخضِرُ)).
          وأطالَ في ((الفتح)) فمن ذلك ما رواه الدَّارقُطنيُّ في ((الإفراد)) عن ابنِ عبَّاسٍ مرفوعاً أنَّه قال: ((يجتمِعُ الخضِرُ وإلياسُ عليهما السلامُ كلَّ عامٍ في الموسِمِ، فيحلِقُ كلٌّ منهما رأسَ صاحبِه، ويتفرَّقان عن هؤلاءِ الكلماتِ بسمِ اللهِ ما شاءَ اللهُ)) الحديثَ، قال: وفي إسنادِه ضعيفٌ، وروى ابنُ عساكرَ من طريقٍ أخرى: ((أنَّهما يصُومان رمضانَ ببيتِ المقدسِ)) انتهى.
          ولفظُ الحديثِ كما في ((الدُّرِّ المنثورِ)) عن ابن عبَّاسٍ: ((بسمِ الله ما شاءَ اللهُ، لا يسوقُ الخيرَ إلا اللهُ، ما شاءَ اللهُ، لا يصرفُ السُّوءَ إلا اللهُ، ما شاءَ اللهُ، ما كانَ من نعمةٍ فمِن اللهِ، ما شاءَ اللهُ لا حولَ ولا قوَّةَ إلا باللهِ)) قال ابنُ عبَّاسٍ: مَن قالَهنَّ حينَ يصبِحُ ثلاثَ مرَّاتٍ، وحينَ يُمسي ثلاثَ مرَّاتٍ، آمنَه اللهُ من الغرَقِ والحرَقِ والسَّرَقِ، ومن الشَّيطانِ والسُّلطانِ، ومن الحيَّةِ والعقربِ، انتهى.
          وقد ذكَرْنا شيئاً من أحوالِ الخضرِ في ((الأجوبةِ المحقَّقةِ عن الأسئلةِ المفرَّقةِ)) ومنها: ما نُقلَ عن الشَّيخِ ركنِ الدَّولةِ والدِّينِ السِّمنانيِّ أنه ذكرَ في كتابِ ((المعرفةِ)) أنَّ الخضِرَ عليه السَّلامُ يصيرُ شابًّا على رأسِ كلِّ مِائةٍ وعشرينَ سنةً، فاعرِفْه.