الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك}

          ░45▒ (بابٌ) بلا ترجمةٍ، فهو كالفصلِ من سابقِهِ ({وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ}) هذه الآياتُ الثلاثُ المتواليةُ في آلِ عِمرانَ، والمرادُ من الملائكةِ في الآيةِ الأولى جبريلُ وحده أخذاً من قولِه تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17] الآيةَ، وهي في سورةِ مريمَ من أنَّ المتكلِّمَ مع مريمَ هو جبريلُ عليه السَّلامُ، فما هنا مَجازٌ من إطلاقِ الكلِّ وإرادةِ البعضِ، أو من حذفِ مضافٍ نحوِ: بعضُ.
          ({يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42]) الجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بـ{اصْطَفَاكِ} الثَّاني، ويحتمِلُ بغيرِه، أو على عالمِي نسَائها، وقال البيضَاويُّ: كلَّمُوها شِفاهاً كرامةً لها، ومَن أنكرَ الكرامةَ زعمَ أنَّ ذلك كان معجزةً لزكريا وإرهاصاً لنبوَّةِ عيسى، / فإنَّ الإجماعَ على أنَّه تعالى لم يستنبي امرأةً؛ لقولِه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً} [الأنبياء:7]، وقيل: ألهَمُوها، قال: والاصطفاءُ الأوَّلُ: تقبُّلُها من أمِّها، ولم يُقبَلْ قبلها أنثى، وتفريغُها للعبادةِ، وإغناؤها برزقِ الجنَّةِ عن الكسبِ، وتطهيرُها عمَّا يُستقذَرُ من النِّساءِ، والثاني: هدايتُها وإرسَالُ الملائكةُ إليها، وتخصيصُها بالكرَاماتِ السَّنيَّةِ؛ كالولدِ من غيرِ أبٍ، وتبرِئتُها عمَّا قذفَتْه اليهودُ بإنطَاقِ الطِّفلِ وجعلِهَا وابنَها آيةً للعَالمين، انتهى.
          وأقولُ: سبقَ البيضَاويُّ الإمامَ في نقلِ الإجماعِ على أنَّه ليسَ في النِّساءِ نبيَّةٌ، وتُعقِّبَ بما نقلَه في ((الفتح)) أنَّه استُدلَّ بالآيةِ على أنَّ مريمَ نبيَّةٌ وإن لم يكُنْ صَريحاً، ويؤيِّدُه ذكرُها في الأنبياءِ في سورةِ مريمَ، ويقولُ القرطبيُّ: والصَّحيحُ أنَّ مريمَ نبيَّةٌ، ويقولُ عياضٌ: الجمهورُ على خلافِه، وبما نُقلَ في ((الفتح)) عن ابنِ الأشعريِّ أنَّ في النِّساءِ عدَّة نبياتٍ، وحصَرَهنَّ ابنُ حزمٍ في ستٍّ: حواءُ، وسارةُ، وهاجرُ، وأمُّ موسى، وآسيَةُ، ومريمُ، وأسقطَ القرطبيُّ: سارةَ وهاجرَ، ونقلَه في البيهقيِّ عن أكثرِ الفقهاءِ.
          وعن الحسَنِ: ليس في النِّساءِ نبيَّةٌ ولا في الجنِّ، وقال التقيُّ السُّبكيُّ: لم يصِحَّ عندي في هذه المسألةِ شيءٌ.
          ({يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ}) أي: أطيعيه، و{اقْنُتِي}: بضم النون، فعلُ أمرٍ من: القنوتِ؛ وهو: الطَّاعةُ.
          وقوله: ({وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}) المرادُ به: صلِّي معَ المصلِّين، قال البَيضَاويُّ: أُمِرَتْ بالصَّلاةِ في الجماعةِ بذكرِ أركانِها مبالَغةً في المحافظةِ عليها، وقدَّمَ السجودَ على الرُّكوعِ إمَّا لكونِه كذلك في شريعتِهم، أو للتَّنبيهِ على أنَّ الواوَ لا توجِبُ التَّرتيبَ، أو ليقرُنَ: {ارْكَعِي} بـ{الرَّاكِعِينَ}؛ للإيذانِ بأنَّ مَن ليس في صلاتِهم ركوعٌ ليسُوا مصلِّين، وقيل: المرادُ بالقُنوتِ: إدامةُ الطَّاعةِ؛ كقوله: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:9]، وبالسُّجودِ: الصَّلاةُ؛ لقولِه: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:40]، وبالركوعِ: الخشوعُ والإخباتُ.
          ({ذَلِكَ}) أي: ما ذكرنا لكَ من القَصصِ {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} أي: من الأخبارِ المغيَّباتِ التي لم تعرِفْها إلا بالوحيِ، فـ{ذَلِكَ}: مبتدأٌ، والظرفُ: خبرُه، وجملةُ: ({نُوحِيهِ إِلَيْكَ}) مستأنفةٌ أو حاليةٌ، وضميرُ: {نُوحِيهِ} يرجِعُ إلى: {الْغَيْبِ}، والمرادُ: إنَّا نوحي إليكَ المغيَّباتِ ونُعلمُك بها، ونُظهِركَ على قصصِ مَن تقدَّمَك مع عدَمِ أخذِكَ عن أهلِ الأخبارِ منهم وعدمِ معرِفتِكَ بالكتابةِ، ولذلك قال: {نُوحِيهِ} مضارعاً.
          وجملةُ: ({وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ}) حاليةٌ، و{لَدَيْهِمْ}؛ أي: عندهم، ظرفٌ مبنيٌّ على السكون على الياءِ المنقلبةِ عن الألف ({إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ}) أي: يرمونَ سِهامَهم في النهرِ للاقتراعِ، فإنَّ: {أَقْلاَمَهُمْ} جمعُ: قلَمٍ _بفتحتَين_ بمعنى: السَّهمِ، وقال البيضَاويُّ: أقداحَهم للاقتراعِ، وقيل: اقترعُوا بأقلامِهم التي كانُوا يكتُبونَ بها التوراةَ تبرُّكاً، قال: والمرادُ: تقريرُ كونِه وحياً على سبيلِ التَّهكُّمِ بمنكِريهِ، فإنَّ طريقَ معرفةِ الوقائعِ المشاهَدةُ والسَّماعُ، وعدمُ السَّماعِ معلومٌ لا شبهةَ فيه عندهم، فبقيَ أن يكونَ الاتِّهامُ باحتمالِ العَيانِ، ولا يظنُّ به عاقلٌ.
          وجملةُ: ({أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}) من المبتدأِ والخبرِ متعلقٌ بمحذوفٍ كما قال البيضَاويُّ، دلَّ عليه: {يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ}؛ أي: يلقونَها ليعلَمُوا، أو يقولُوا: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}، وهو من بابِ: قتَلَ، ومصدرُه: كَفْلاً وكُفُولاً، قاله في ((المصباح))، والاسمُ: الكفَالةُ، وحكى أبو زيدٍ سَماعاً من العربِ: من بابَي تعِبَ وقرُبَ، وحكى ابنُ القطَّاعِ: كفِلتُه وكفِلتُ به وعنه: إذا تحمَّلتَ به، ويتعدَّى إلى مفعولٍ ثانٍ بالتَّضعيفِ والهمزةِ، انتهى.
          وقال أبو عبيدةَ: كفَلَها _بفتحِ الفاءِ وكسرِها_؛ أي: ضمَّها، قال في ((الفتح)): وكسرُ الفاءِ هو قراءةُ بعضِ التَّابعين.
          وقوله: ({وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:43]) معطوفٌ على: {وَمَا كُنْتَ}، و{إِذْ} في الموضعَين متعلِّقٌ بما تعلَّق به: {لَدَيْهِمْ} فيهما، أو حالٌ منه؛ أي: وما كنتَ يا محمَّدُ عندهم في هذَينِ الوقتَين / حين تنافَسُوا في كفالتِها؛ لأنَّ والدَها عِمرانَ كان رئيساً من أعيانِهم، أو لأنَّ أمَّها حرَّرتها لعبَادةِ اللهِ تعالى ولخدمةِ بيتِهِ.
          قال القسطلانيُّ: وسقطَ لأبي ذرٍّ من: <{وَطَهَّرَكِ} إلى آخرِ: {أَقْلَامَهُمْ}>، وقال بعد: {اصْطَفَاكِ}: <إلى قولِه: {أَيُّهُمْ}>، انتهى.
          ورأيتُ في بعضِ النُّسخِ: <{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} الآيةَ إلى قولِه: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}> وفي ((تفسيرِ الشِّربينيِّ)): رويَ أنَّ حَنَّةَ لمَّا ولَدَت مريمَ لفَّتْها في خِرقةٍ، وحمَلَتْها إلى المسجدِ الأقصى، ووضعَتْها عند الأحبارِ، وقالت: دونَكم هذه النَّذيرةُ، فتنافسُوا فيها؛ لأنَّها بنتُ إمامِهم الأعظمِ، أو في الصَّلاةِ، فقال زكريَّا: أنا أحقُّ بها؛ لأنَّ خالتَها عندي، فقالت الأحبارُ: لا تفعَلْ ذلك؛ لأنَّها لو تُركَت لأحقِّ الناسِ لتُركَتْ لأمِّها، لكنَّا نقترعُ عليها، فتكونُ عند مَن تخرجُ بسهمِه، وكانوا سبعةً وعشرين رجلاً، فانطلَقُوا إلى نهرِ الأردُنِّ، وألقَوا أقلامَهم على أنَّ مَن ثبتَ قلَمُه في الماءِ فهو أَولى بها، فثبَتَ قلمُ زكريَّا، فأخذَها وضمَّها إلى خالتِها.
          (يُقَالُ: {يَكْفُلُ} يضمُّ ▬كَفَلَهَا↨: ضَمَّهَا، مُخَفَّفَةً) يريدُ أنَّ: {يَكْفُلُ} بمعنى: يضُمُّ، وأنَّ: ▬كفَلَها↨ مخفَّفةُ الفاءِ بمعنى: ضمَّها، والتخفيفُ قراءةُ نافعٍ وأبي عمرٍو وابنِ كثيرٍ وابنِ عامرٍ، وقرأَها الكوفيُّون بتشديدِ الفاءِ؛ أي: كفَّلَه اللهُ تعالى إيَّاها، وهما متلازمانِ غالباً؛ لأنَّ اللهَ لمَّا كفَّلَها لزكريا كفَلَها زكريا، وعلى تشديدِ: {كَفَّلَهَا} فـ{زَكَرِيَّا} مفعولُه، وعلى تخفيفِها فـ{زَكَرِيَّا} فاعلُه.
          (لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ) وفي بعضِ النُّسخِ: <الدَّينِ> بالإفراد (وَشِبْهِهَا) أي: شبهِ كفالةِ الدُّيونِ، قال في ((المنحة)) أي: في أنَّهما بمعنى التزامِ الدَّينِ وشبهِه، وإلا فهي بمعنى الضمِّ أيضاً؛ لأنَّها ضمُّ ذمةٍ إلى ذمةٍ في الالتزامِ.