الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله عز وجل: {ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه}

          ░3▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ ╡) وفي بعضِ النُّسخِ: <تعالى> بدل: ((╡)) ({وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} [هود:25]) واعلم أنَّ الترجمةَ هكذا وقعَتْ في روايةِ أبي ذرٍّ، ويؤيِّدها ما وقعَ عقِبَها من شرحِ الكلماتِ التي من هذه القصَّةِ في: سورة هودٍ، ووقعَتْ في روايةِ الحفصيِّ بلفظ: بابِ قولِ الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} إلى قولِهِ: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:71-72] ووقعَتْ للبَاقين: ({إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}) إلى آخرِ السُّورةِ وقد ذُكِرَ بعضُ هذا الأخيرِ في روايةِ أبي ذرٍّ قبل الأحاديثِ المرفُوعةِ، قالَهُ في ((الفتح)).
          وأقولُ: الذي رأيتُهُ في النُّسخِ: الجمعٌ بين روايةِ أبي ذرٍّ والباقينَ، هذه الآيةُ في أوائل سورةِ هود ذكرَها لبيانِ ما يتعلقُ بـ((نوح))، ولمَّا كان الكتابُ السَّابقُ لبيانِ ذكرِ الأنبياءِ عليهم السَّلام وتكلَّمَ على ما يتعلَّقُ بآدمَ؛ لأنَّهُ أوَّلهم بل هو أوَّلُ البشرِ مطلقاً، ثنَّى بالكلامِ على نوحٍ؛ لأنَّهُ الأبُ الثَّاني للبشرِ، واللام في {ولقد} موطئةٌ لقسَمٍ محذوفٍ داخلةٌ في جوابِهِ؛ أي: والله لقد بعثنا نوحاً إلى قومِهِ ليدعُوهم إلى الله تعالى وكان ابنُ أربعينَ سنةً، وقال الثَّعالبيُّ: ابنُ خمسين سنةً، وقال مقاتلٌ: ابنُ مئة سنةٍ، وقال ابنُ جريرٍ: كان ابنُ ثلاثمائةٍ وخمسينَ سنة.
          ونوحٌ اسمٌ، وقيل: لقبٌ، واسمهُ عبد الغفار أو يشكر، ويؤيِّدُهُ ما رويَ عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ قال: سمِّيَ نوحاً لكثرةِ نوحِهِ على نفسِهِ، واختلفَ في سبب نوحِهِ، فقيل: لدعائِهِ على قومِهِ بالهلاكِ، وقيل: لمراجعتِهِ ربَّهُ في شأنِ ولدِهِ كنعانَ المشار إلى أمرِهِ / في القرآنِ، وتقدَّمَ أولُ بدء الوحيِ: الإلمامُ بشيءٍ من شأنِهِ عليه السلام، ونذكرُهُ هنا بأبسطَ فنقولُ:
          هو نوحُ بن لَمْك _بفتح اللام وسكون الميم آخره كاف، وقيل: بفتحتين وهو المشهُورُ، وقيل: هو ابنُ لامك؛ بألف بين اللَّام والميمِ وعليه فالميمُ مفتوحةٌ أو مكسورةٌ_ ابن مَتُّوْشَلَخ _بفتحِ الميم وتشديدِ المثنَّاة الفوقيَّة المضمومةِ فواو ساكنة فشين معجمة مفتوحة فلام كذلك_ ابنُ خَنُوْخ _بفتح الخاء الأولى المعجمة وبضم النونِ الخفيفة فواو ساكنة فخاء معجمة آخرُهُ_،وهو إدريسُ فيما يقالُ، وهو أوَّلُ نبيٍّ بعثَهُ الله بعد إدريسَ.
          وقال القرطبيُّ: هو أول نبيٍّ بعثَهُ الله بعد آدم بتحريمِ البناتِ والعمَّاتِ والخالاتِ وذكر ابنُ جريرٍ أن مولدَ نوحٍ كان بعدَ وفاةِ آدمَ بمائة وستة وعشرين عاماً، وأنَّهُ بُعِثَ وهو ابنُ ثلاثمائة وخمسين سنة، وقيل غير ذلك وأنَّهُ عاشَ بعد الطُّوفان ثلاثمائة سنةٍ وخمسين، وقيل: إنَّ مدَّةَ عمرِهِ ألف سنةٍ إلَّا خمسين عاماً قبلَ البعثةِ وبعدها وبعدَ الغرقِ، وصحَّحَ ابنُ حبانَ من حديثِ أبي أمامةَ أنَّ رجلاً قال: يا رسولَ اللهِ، أنبيٌّ كان آدمُ؟ قال: ((نعم)) قال: فكم كانَ بينَهُ وبين نوحٍ؟ قال: ((عشرَةُ قرونٍ)) كذا في ((الفتح)) وغيرِهِ.
          وهذا الحديثُ رواهُ الحاكمُ في ((المستدرك)) عن ابنِ عبَّاسٍ، وكذا رواهُ الطَّبرانيُّ عن أبي ذرٍّ بلفظ: قلت: يا رسولَ الله، من أوَّلُ الأنبياءِ؟ قال: ((آدمُ)) قلت: ثم من؟ قال: ((نوحٌ، وبينهما عشرَةُ قرونٍ)) ولعلَّ المرادَ بالقَرنِ هنا غير معناهُ المشهور لئلَّا يشكلَ بحديثِ أبي أمامةَ الذي صحَّحهُ ابنُ حبَّانَ المذكور قبلَهُ، فتأمَّل.
          وقال السُّيوطيُّ في ((الإتقان)): قال الجواليقيُّ: نوحٌ أعجميٌّ معرَّبٌ، زادَ الكرمانيُّ: ومعنَاه بالسِّريانيَّةِ: السَّاكنُ، وقال الحاكمُ: أكثرُ الصَّحابةِ على أنَّهُ قبلَ إدريسَ، وقال وهبُ بن منبِّه: إدريسُ جدُّ نوحٍ عليهما السَّلام.
          ونذكرُ عبارةَ العينيِّ هنا، وإن كانَ فيها بعضُ ما تقدَّمَ لكثرةِ فوائِدِها قال: نوحُ هو ابن لَمْك _بفتحِ اللامِ وسكونِ الميم، وقيل: لَمَك؛ بفتحتين، وقيل: لَامك؛ بفتح الميم وكسرها_،وقال ابنُ هشامٍ: بالعبرانيَّة لامَخ _بفتح الميم وفي آخره خاء معجمة_،وبالعربيَّة: لمك، وبالسِّريانيَّةِ: لمخ، وتفسيرُهُ: متواضعٌ، ويقال: لَمْكان، ويقال: مَلْكان بتقديم الميم وهو مَتُّوْشَلَخ _بفتح الميم وضم المثناة الفوقية المشدَّدَةِ وسكون الواو وفتحِ الشِّين المعجمة واللام آخره خاء معجمة_ كذا ضبطَهُ ابنُ المصريِّ.
          وضبطَهُ أبو العباسِ عبدُ الله بن محمدٍ النَّاشئ في قصيدةٍ يمدحُ بها رسُولَ اللهِ صلعم وهي طويلةٌ ذكرتُها في أوَّلِ ((معاني الأخبار في رجال معاني الآثار)) بضمِّ الميمِ وفتحِ الفوقيَّة والواوِ وسكون الشِّين المعجمةِ وكسرِ اللامِ وبالخاءِ المعجمةِ، وقال السُّهيليُّ: بضمِّ الميم وفتحِ التاء وسكون الواو، ومنهم من ضبَطَ آخرَهُ بالحاء المهملةِ، ومعناهُ في الكلَّ: ماتَ الرَّسُولُ؛ لأنَّ أباه كان رسولاً وهو خَنُوْخ _بفتحِ الخاء المعجمةِ وضمِّ النونِ وسكون الواو وفي آخره معجمة أخرى، ويقال: بالحاء المهملة في أوَّلِهِ، ويقالُ: بالمهملتين، ويقالُ: أخنوخ؛ بزيادة همزة في أوَّلِهِ، ويقالُ: أخنخُ؛ بإسقاط الواو، ويقالُ: أهنخ؛ بالهاء بعد الهمزة_، ومعناهُ على الجميعِ بالعربيَّةِ: إدريس، سمِّيَ به لكثرَةِ درسِهِ الكتبَ وصحف آدمَ وشيث، وأمُّهُ أشوت، وأدرك من حياة آدمَ ثلاثمائة سنة وثمان سنين، وهو: ابنُ يَارَ بتحتية أوَّله وفتحِ الرَّاء كذا ضبطَه أبو عُمر، وكذا ضبطَهُ النَّسابَةُ الجوانيُّ، إلَّا أنَّهُ قال: بالذَّال المعجمة، وقيل: يَرِدُ بفتح التحتية / وسكون الرَّاء.
          وقال ابنُ هشامٍ: اسمهُ في التَّوراةِ: يارد وهو عِبرانيٌّ، وتفسيرُهُ: ضابط، واسمُهُ في الإنجيلِ: يرد، وتفسيرُهُ بالعربيَّةِ: ضبط، وقيل: اسمهُ رايدٌ، ولم يثبتْ، وهو ابن مَهْلائيل _بفتحِ الميمِ وسكونِ الهاء وبالهمزِ، وقد يقالُ بالياءِ بلا همزٍ_ ومعناهُ الممدحُ.
          وقال ابنُ هشامٍ: مَهْلِيل _بفتحِ الميم وسكونِ الهاء وكسرِ اللام_،وهو عِبرانِيٌّ، ومعناهُ بالعربيَّةِ: ممدوحٌ، وقال السُّهيليُّ: اسمهُ بالسِّريانيَّةِ نابل _بالنونِ والباء الموحدةِ_،ومعناه بالعربيَّةِ: يسبحُ اللهَ وفي زمنِهِ كان ابتداءُ عبادةِ الأصنامِ وهو ابن قَيْنان _بفتحِ القافِ وسكونِ التَّحتيَّة وبنونين بينهما ألفٌ_،ومعناهُ: المستولي، وجاءَ فيه قينن وقاينٌ، واسمهُ في الإنجيلِ ماقيان، وتفسيرُهُ بالعربيَّةِ: عيسى، وهو ابن آَنُوْش _بفتحِ الهمزةِ الممدودَةِ وضمِّ النونِ فواو ساكنة فشين معجمة_،ومعناهُ الصَّادِقُ.
          ويقالُ: إِيناش _بكسر الهمزةِ_،وهو عبرانِيٌ وتفسيرُهُ بالعربيَّةِ: إنسانٌ، ويقال: يانش _بتحتيَّة أولَهُ_،ومعناهُ: المستوي، وهو ابن شِيْث _بكسر الشِّين المعجمة وسكون التحتية فثاء مثلثة_،ومعناهُ: عبدُ اللهِ، ويقال: عطيَّةُ اللهِ، وهذا اسمهُ بالعبرانيَّةِ، وأما بالسِّريانيَّةِ: فاسمه شَات بالألف بدل التحتية، وتوفِّي شيث عليه السَّلام وعمرُهُ تسع مئة سنة واثنتا عشرة سنة، ودُفِنَ معَ أبويهِ آدمَ وحواء عليهم الصَّلاة والسَّلام في غارِ أبي بيس وهو الذي بَنَى الكعبةَ بالطِّين والحجَارةِ، وكانَتْ هناكَ خيمةٌ لآدمَ عليه السَّلام وضَعَها اللهُ لَهُ من الجنَّةِ، وكان أبَوَا نوحٍ مؤمنينَ، واسم أمِّهِ: قينوش بنت بوكابيل بن محواييل بن خنوخ.
          وقال الزَّمخشريُّ: اسم أمِّ نوحٍ شَمخا بنتِ الرشِّ، وأرسلَ اللهُ نوحاً عليه السَّلام إلى ولدِ قابيلَ ومن تابَعَهم من ولدِ شيث وهو ابنُ خمسينَ سنة، وقيل: ابنُ ثلاثمائة وخمسينَ سنةً، وقيل: ابنُ ثمانينَ وأربعمائة سنةٍ، واختلفوا في مقامِهِ على قولَين:
          أحدهما: بالهندِ، قالَهُ مجاهدٌ.
          والثاني: بأرضِ بابلَ والكوفةِ، قالَهُ الحسنُ البصريُّ.
          وقال ابن جريرٍ: كان مولدُهُ بعد وفاةِ آدمَ بمائةِ سنةٍ وستٍّ وعشرين، وقال مقاتلٌ: بينَهُ وبينَ آدمَ ألف سنةٍ، وبينَهُ وبينَ إدريسَ مائة سنةٍ، وهو أوَّلُ نبيٍّ بعد إدريسَ عليه السَّلام، وقال مقاتلٌ: اسمُهُ السَّكن، وقيل: ساكن، وقال السُّدِّيُّ: إنَّما سمِّيَ سكناً؛ لأنَّ الأرضَ سكنَتْ به، وقيل: اسمهُ عبد الغفَّار ذكرَهُ الطبريُّ، وسُمِّيَ نوحاً لكثرةِ نوحِهِ وبكائِهِ، ويقالُ: إنَّ اللهَ أوحى إليه لِمَ تنوحُ؟ لكثرةِ بكائِهِ فسمِّيَ نوحاً، ويقال: إنَّهُ نظر يوماً إلى كلبٍ قبيحِ المنظرِ، فقال: ما أقبحَ صورةَ هذا الكلبِ فأنطقَهُ اللهُ ╡، وقال: يا سكَن على من عبْتَ على النَّقشِ أو على النَّقَّاشِ؟ فإن كان على النَّقشِ فلو كان خلْقِي بيدِي، حسنتُهُ، وإن كان على النَّقَّاشِ فالعيبُ عليه اعتراضٌ في مُلْكِهِ، فعلم أنَّ اللهَ أنطقَهُ فناحَ على نفسِهِ وبكى أربعين سنةً، قالَهُ السُّدِّيِّ عن أشياخِهِ.
          ومات نوحٌ وعمرُهُ ألف سنة وأربعمائة سنة، قالَهُ ابنُ الجوزيِّ في كتاب ((أعمار الأعيان))، وقيل: ألفٌ وثلاثمائة سنةٍ، وقيل: ألفٌ وسبعُ مائةٍ وثمانينَ سنة.
          قيل: إنَّهُ ماتَ بقريةِ الثَّمانينَ، وهي القريةُ التي بناها عندَ الجودِيِّ الذي أَرْسَتْ عليه السَّفينةُ وهو بقربِ الموصلِ بالشَّرقِ حكاهُ هارونَ بن المأمون، وقال ابنُ إسحاقَ: ماتَ بالهندِ على جبلِ نرد، وقيل: بمكَّةَ، وقال عبدُ الرَّحمن / بن ساباط: قبرُ هودٍ وصالحٍ وشعيبٍ ونوحٍ عليهم الصَّلاة والسَّلام بين زمزمَ والرُّكنِ والمقامِ، وقيل: ماتَ ببابلَ وببلد بعلَبَكْ في البِقَاعِ قريةٌ يقالُ لها: الكركُ فيها قبرٌ يقال لهُ: قبرُ نوحٍ، ويعرفُ الآنَ بكركِ نوحٍ عليه السَّلام.
          وقال ابنُ كثيرٍ: وأمَّا قبرُهُ فروى ابنُ جريرٍ والأزرقيُّ: أنَّهُ في المسجدِ الحرامِ وهذا أقوى وأثبَتُ من الذي ذكرَهُ كثيرٌ من المتأخِّرين من أنَّهُ ببلدةٍ بالبقَاعِ تعرفُ بكركِ نوحٍ، وذكرَهُ اللهُ في القرآنِ في ثمانيةٍ وعشرينَ موضعاً منها ما ذكرَهُ البخاريُّ.
          وبالسَّند إلى المصنِّف قال:
          (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻) ممَّا وصلَهُ ابنُ أبي حاتمٍ من طريقِ عطاءَ عنه يريدُ قولَهُ تعالى في سورةِ هودٍ: {وَمَا[نَرَاكَ] اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود:27] ({بَادِئَ الرَّأْيِ} مَا ظَهَرَ لَنَا) يعنِي: أنَّ ابنَ عبَّاس فسَّرَ {بَادِئَ الرَّأْيِ} في سورة هود بقولِهِ: ((ما ظهرَ لنا)) أي: من غيرِ تأمُّلٍ بل من أوَّلِ وهلةٍ، وهذا التَّفسيرُ ظاهرٌ على قراءة: ▬بادي↨ بالتحتية آخره، وكذا على قراءتِهِ بالهمزة وهو منصوبٌ بـ{اتَّبَعَكَ} على أنَّهُ ظرفٌ لَهُ على حذفِ مضافَين؛ أي: وقت حدوثِ بادِي الرأي، قالَهُ البيضَاويُّ كالزمخشريِّ.
          لكن قال الكورانيُّ: هذا المنقولُ عن ابنِ عبَّاسٍ خلافُ الظَّاهرِ؛ لأنَّ هذا قول كفَّارِ قومِ نوحٍ أرادُوا به القدحَ، في الَّذين آمنُوا به، قال: وتحقيقُهُ أن {باَدِيَ} قرئ بالهمزِ وبالياءِ في السَّبعِ، فالمعنى على الأوَّلِ: أنَّ الذين آمنوا بكَ في أوَّلِ رأيهم من غير تأمُّلٍ ومشورةٍ، وعلى الثَّاني: أنَّهُم اتَّبعُوك فيما ظهرَ لهم من الرَّأي الفاسِدِ، انتهى فتأمَّله.
          ({أَقْلِعِي}) بقطعِ الهمزة كقولِهِ: (أَمْسِكِي) هذا التَّعليقُ كالذي بعدَهُ وصلَهُ ابنُ أبي حاتمٍ أيضاً عن ابنِ عبَّاسٍ من طريقِ عليِّ بن أبي طلحةَ، ففسَّرَ: {أَقْلِعِي} بــ((أمسكي)) من قولِهِ تعالى في هود: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود:44] ومنه: أقلعتِ الحمَّى عن فلانٍ، وهذا مجازٌ؛ لأنَّ السَّماءَ لا تعقلُ، قال بعضُهم: لو فُتِّشَ كلامُ العربِ وغيرِهِم لم يوجدْ فيه مثلُ هذه الآيةِ لحُسنِ نظمِها وبلاغتِها وجمعِها المعَاني الكثيرةِ مع اختصَارها.
          وقال البيضَاويُّ: نودِيَتِ السماءُ والأرضُ بما ينادَى بهِ أولو العلمِ وأمرَتا بما يؤمرونَ به تمثيلاً لكمَالِ قدرتِهِ تعالى وانقيادِهِما لما يشاء تكوينَهُ فيهما بالأمرِ المطَاعِ الذي يأمرُ المنقَادَ لحكمِهِ المبادرَ إلى امتثالِ أمرِهِ مهابَةً من عظمتِهِ وخشيتِهِ من أليمِ عقابِهِ، والبَلعُ: النَّشفُ، والإقلاعُ: الإِمسَاكُ، انتهى.
          وقيل: إنَّهُ حقيقةٌ وإنَّهُ تعالى جعلَ فيهما عقلاً يميِّزانِ به وينقادَانِ لما طلبَ منهُما.
          ({وَفَارَ التَّنُّورُ} نَبَعَ الْمَاءُ) أي: في التَّنُّورِ وارتفعَ كالقِدْرِ، يفورُ من الفورِ، وهو الغليَانُ، وهذا تفسير: {فار}، وأما {التنور} فهو فارسيٌ معرَّبٌ لا تعرفُ له العربُ اسماً غيرَ الذي يخبَزُ فيهِ، قالَهُ ابنُ دريدٍ.
          وقال ابنُ عبَّاس: التَّنوُّر بكلِّ لسَانٍ عربيٍّ وعجَميٍّ؛ أي: فهو ممَّا اتَّفقَ فيه اللُّغاتُ كالصَّابُون، وعنه أنَّهُ تنور الملَّة، وقال الحسنُ: كان من حجَارةٍ، قيل: إنَّهُ كان لآدمَ وأنَّ حواءَ كانت تخبِزُ فيه ثمَّ صارَ إلى نوحٍ عليه السَّلام.
          (وَقَالَ عِكْرِمَةُ) أي: مولى ابن عبَّاس (وَجْهُ الأَرْضِ) هذا التَّعليقُ وصلَهُ ابنُ جريرٍ من طريقِ أبي إسحاقَ الشَّيبانِي عن عكرمةَ في تفسيرِ: ((التنور)) وهو أيضاً قول الزُّهريِّ، / وعبارةُ البيضَاويِّ: الهندُ أو بعَينِ وردةٍ من أرضِ الجزيرةِ، وقيل: التنُّورُ وجهُ الأرضِ أو أشرفُ موضعٍ منها، انتهت.
          و((أشرف)) أي: أعلى من الشَّرفِ وهو مرتفَعُ الأرضِ، قالَهُ الخفَاجيُّ وذكرَ في وزن التَّنُّورِ اختلافاً.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {الْجُودِيِّ} [هود:44] جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ) أي: جزيرةِ ابنِ عمرَ ☻ معروفةٌ بهِ بين دِجْلة والفُراتِ، وأرادَ بهذا التَّعليق تفسيرَ: ((الجودي)) في قولِهِ تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] في هود، وقد وصلَهُ ابنُ أبي حاتمَ من طريق ابنِ أبي نجيحٍ عنه، وزاد: ((تشامخَتِ الجبالُ يوم الغرقِ، وتواضعَ هو للهِ تعالى فلمْ يغرَقْ وأرْسَتْ عليه سفينةُ نوحٍ)).
          وقال البيضَاويُّ: جَبلٌ بالموصِلِ، وقيل: بالشَّامِ، وقيل: بأُحُدٍ.
          ({دَأْبِ} [غافر:31] حَالٌ) كذا لأبي ذرٍّ وابنِ عسَاكرَ، وزاد غيرُهُما لفظ: <مثلُ> قبل: ((حال)) وهذا التَّعليقُ وصلَهُ الفريابيُّ عن مجاهدٍ أيضاً، يشيرُ به إلى تفسيرِ: {دأب} بـ((حال)) من قولِهِ تعالى: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} [غافر:31] في سورة غافر، و{مثلَ} منصوبٌ على أنَّهُ بدلٌ من مفعول: {أخاف} من قولِهِ تعالى: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} [غافر:31] وفسَّرَهُ بعضُهم: بـ((عادة)).
          ({وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ} إلى قَوْلِهِ: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:71-72]) أي: المنقادينَ لحكمِهِ وأمرِهِ ونهيهِ، وهذه الآيةُ ثبتتْ في الفرعِ وعليها رقم أبي ذرٍّ وابنِ عسَاكرَ، وسقطَتْ لغيرِهِما، ووقعَ في بعضِ الأصولِ الصَّحيحَةِ تأخيرُ هذه الآيةِ عن أوَّلِ البابِ الآتي قبلَ أحاديثِهِ وهذه الآيةُ في أواخرِ يونس.
          وقولُهُ فيها: {مَقَامِي} بفتح الميم، قال القسطلَّانيُّ: أي: إقامَتِي بينكم مدَّةً مديدةً، ألف سنةٍ إلا خمسينَ عاماً، أو قيامِي على الدَّعوةِ، وزادَ البيضَاويُّ: {مَقَامِي}: نفسِي، قال: كقولِكَ: فعلنَا كذا لمكان فلانٍ، انتهى فتأمَّل.
          وهذه الآياتُ كلُّها تناسبُ التَّرجمةَ.
          تنبيهٌ: وقعَ في بعضِ نُسَخِ ((شرح القسطلَّانيِّ)) عقب قولِ المصنِّف: ((وقال مجاهدٌ: {الجودي} جبلٌ بالجزيرةِ)) ما نصُّهُ: ((وروي أنَّهُ _أي: نوحاً_ ركبَ في السَّفينةِ عاشرَ رجبٍ، ونزلَ منها عاشرَ المحرَّمِ، فصامَ ذلك اليومَ فصارَ سنَّةً)) قال: وذكرَ ابنُ جريرٍ وغيرُهُ: أنَّ الطُّوفانَ كان في ثالث شهرِ آب في شدَّةِ القيظِ، قال: وقد يُروى أنَّ نوحاً عليه السَّلام لما يئسَ من صلاحِ قومِهِ دعا عليهم دعوةً غضبَ اللهُ تعالى عليهم، فلبَّى دعوتَهُ وأجاب طلبتهُ، قال اللهُ تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75] وأمرَهُ تعالى أن يغرسَ شجراً ليعمل منه السَّفينَةَ، فغرسَهُ وانتظرَهُ مائة سنةً ثمَّ نجرَهُ في مئة سنةٍ أخرى، وأمرهُ أن يجعلَ طولها ثمانينَ ذراعاً وعرضها خمسينَ ذراعاً، وقال قتادةُ: طولها ثلاثمائة ذراعٍ في عرضِ خمسينَ ذراعاً، وقال الحسنُ البصريُّ: طولها ستمائة ذراعٍ في عرضِ ثلاثمائةِ ذراعٍ، وعن ابن عبَّاسٍ: ألفٌ ومائة ذراعٍ في عرضِ ستمائة، وكانت ثلاثَ طبقاتٍ كلُّ طبقةٍ واحدةٍ عشرةُ أذرعٍ، فالسُّفلى للدَّوابِّ والوحُوشِ، والوسطى للنَّاسِ، والعُليا للطُّيورِ، وكان لها غطاءٌ من فوقِها مطبقٌ عليها.
          فتفتَّحَتْ أبوابُ السَّماءِ بماءٍ منهمرٍ وفجِّرَتِ الأرضُ عيوناً، وأمرَهُ أن يحملَ فيها من كلٍّ زوجين اثنين من الحيواناتِ وسائرِ ما لَهُ روحٌ من المأكولاتِ وغيرها؛ لبقَاءِ نسلهَا، ومن آمنَ وأهلَ بيتِهِ إلا من كان كافراً، وارتفعَ الماءُ على أعلى جبلٍ في الأرضِ خمسة / عشرَ ذراعاً، وقيل: ثمانينَ ذراعاً، وعمَّ الأرضَ كلها طولها وعرضها، ولم يبقَ على وجهِ الأرضِ أحدٌ، واستجابَ اللهُ دعوتَهُ حيث قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] فلم يبقَ منهم عينٌ تطرفُ، وهذا كما قال الحافظُ عمادُ الدِّين بنُ كثيرٍ، يردُّ على من زعمَ من المفسِّرين وغيرِهِم أنَّ عوجَ بن عنق، ويقال: ابن عناقٍ، كان موجوداً من قبْلِ نوحٍ وإلى زمانِ موسى عليه السلام، ويقولون: كان كافراً متمرِّداً جبَّاراً عنيداً، ويقولون: عنق أمُّهُ بنتُ آدمَ من زنا وأنَّهُ كان يأخذُ من طولِهِ السَّمك من قرارِ البحرِ، ويشويهِ في عينِ الشَّمسِ وأنَّهُ كان يقولُ لنوحٍ وهو في السَّفينَةِ: ما هذه القصعةُ التي بكَ؟ ويستهزئُ بها، ويذكرونَ أن طولَهُ كان ثلاثة آلاف ذراعٍ وثلاثمئة وثلاثاً وثلاثين وثلث ذراعٍ إلى غيرِ ذلك من الهذيَاناتِ التي لولا أنَّها مسطَّرةٌ في كثيرٍ من كتب التَّفاسير وغيرِها من التَّواريخِ وغيرِها من أيَّامِ النَّاس لما تعرَّضنا لحكايتها لسقاطَتِها وركاكَتِها ثمَّ إنَّها مخالفةٌ للمعقُولِ والمنقولِ.
          أمَّا العقلُ: فكيف يسوغُ أنَّ اللهَ يهلك ولدَ نوحٍ لكفرِهِ وأبوهُ نبيُّ الأمَّةِ وزعيمُ أهلِ الإيمان، ولا يهلكُ عوج بن عنقٍ وهو أظلمُ وأطغَى على ما ذكروهُ، ولا يرحمُ منهم أحداً ويتركُ هذا الجبَّارَ العنيدَ الفاجرَ الشَّديدَ الكافرَ المَريد على ما ذكروُهُ.
          وأمَّا المنقولُ: فقال تعالى: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ} [الشعراء:66] وقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26].
          ثمَّ هذا الطولُ الذي ذكروهُ مخالفٌ لما في ((الصَّحيحين)) عن رسُولِ اللهِ صلعم: ((إنَّ اللهَ خلقَ آدمَ طولُهُ ستُّونَ ذراعاً، ثمَّ لم يزلِ الخلقُ ينقصُ حتى الآن)) فهذا نصُّ الصَّادقِ المصدوقِ الذي لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلَّا وحيٌ يوحَى، أنَّهُ لم يزل ينقصُ حتَّى الآن؛ أي: لم يزلِ الناسُ في نقصَانٍ في طولهم من آدمَ إلى يومِ إخبارِهِ بذلك وهلُمَّ جرًّا إلى يوم القيامةِ، وهذا يقتضِي أنَّهُ لم يوجدْ من ذريَّةِ آدمَ من كانَ أطولَ منه، وكيف يُتركُ أو يصارُ إلى قولِ الكذَبَةِ الكفَرَةِ من أهلِ الكتابِ الذين بدَّلوا كتبَ الله المنزَّلةِ وحرَّفوها وأوَّلوها ووضعوها على غيرِ مواضِعِها، عليهم لعائنُ اللهِ المتتابعةِ إلى يوم القيَامةِ.
          وما أظنُّ هذا الخبرَ عن عوجٍ إلَّا اختلاقٌ من بعضِ زنادقَتِهم وكفَّارِهم الذين كانوا أعداءَ الأنبياءِ، انتهى.
          وأقولُ: في قولِهِ: ويقولون: عنقٌ أمُّهُ بنتُ آدم من زنا، انتهى، كلامٌ لا يليقُ أن يصدرَ من مؤمنٍ، إذ كيف يجوز نسبةُ آدمَ عليه السلام لما ذكرَ _حاشاهُ من ذلك_ وقد يتكلَّفُ في الجوابِ بأنَّ قولَهُ: ((من زنا)) خبرٌ لمحذوفٍ؛ أي: هو، أو حالٌ من ضمير كأنَّ الراجعَ إلى عوجٍ لا إلى عنقٍ أمِّهِ وإن كان فيه شيءٌ لكنَّهُ أخفُّ من ذلك.
          وقال السُّيوطيُّ في رسالتِهِ ((الأوج في خبر عوج)): قال العلامةُ ابنُ القيِّم في كتابِهِ المسمَّى بـ((المنار المنيف في الصحيح والضعيف)): من الأمورِ التي يعرفُ بها كون الحديثِ موضوعاً أن يكونَ مما تقومُ الشَّواهدُ الصَّحيحة على بطلانِهِ كحديثِ عوج بن عنقٍ الطَّويلِ الذي قصدَ واضعُهُ الطعنَ في أخبارِ الأنبياءِ عليهم السلام، فإنَّهُم يجترؤونَ على هذه الأخبار، فإنَّ في هذا الحديثِ: أن طولَهُ كان ثلاثةَ آلاف ذراعٍ وثلاثمئة ذراع وثلاثة وثلاثين وثلث، وأنَّ نوحاً عليه السلام لما خوَّفَهُ الغرقَ، قال له: احملني في قصعتِكَ هذه، وأنَّ الطُّوفانَ / لم يصِل إلى كعبِهِ، وأنَّهُ خاضَ البحرَ فوصلَ إلى حجزتِهِ، وأنَّهُ كان يأخذُ الحوتَ من قرار البحرِ ويشويهِ في عين الشَّمسِ، وأنَّهُ قلعَ صخرةً عظيمةً على قدر عسكرِ موسى وأراد أن يرصِّعَهم بها فقلدها اللهُ في عنقِهِ مثل الطَّوقِ، قال: وليس العجبُ من جرأةِ مثل هذا الكذَّاب على الله تعالى، إنَّما العجبُ ممن يُدخِلُ هذا الحديثَ في كتبِ العلمِ من التفسير وغيرِهِ، ولا يبيِّنُ أمرَهُ وهذا عندهم ليس من ذرِّيَّةِ نوحٍ، وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77] فأخبر أنَّ كلَّ من بقي على وجهِ الأرض فهو من ذرِّيَّةِ نوحٍ، فلو كان لعوج وجودٌ لم يبقَ بعد نوحٍ، وأيضاً فبينَ السَّماءِ والأرضِ خمسمئة عامٍ وسُمْكُها كذلك وإذا كانَتِ الشَّمسُ في السَّماء الرابعة فبينَنا وبينَها هذه المسَافة العظيمةُ، فكيف يصلُ إليها من طولُهُ ثلاثة آلاف ذراعٍ حتى يشوي في عينِها الحوتَ، ولا ريبَ أنَّ هذا وأمثالَهُ من وضعِ زنادقةِ أهلِ الكتابِ الذين قصَدُوا الاستهزاءَ والسُّخريةَ بالرُّسلِ وأتباعِهِم، انتهى كلامُ ابنُ القيم.
          وتابعَهُ الحافظُ عمادُ الدِّين ابنُ كثيرٍ، فقال في كتابِهِ ((البداية والنهاية)): قصةُ عوجِ بن عنق وجميع ما يحكونَ عنه هَذَيان لا أصلَ له وهو من مختلقَاتِ زنادقةِ أهلِ الكتابِ، ولم يكنْ قطُّ على عهدِ نوحٍ ولم يسلَمْ من الغرقِ من الكُفَّار أحدٌ.
          وقال السُّيوطيُّ: في هذه الرِّسالةِ، قلت: قد أخرجَ ابنُ المنذرِ في ((تفسيره)) بسندِهِ عن ابنِ عَمرٍو قال: طول عوج ثلاثة عشر ألف ذراعٍ، وعوج رجلٌ من قومِ عادٍ فيغدُو مع الشَّمسِ، ويروحُ معها، وقد أوردَ بعضَها بعضُ المصنِّفين هذا في تأليفٍ، ثمَّ قال: وهذا مما يَستحيي الشَّخصُ أن ينسبَهُ إلى ابنِ عَمرو لضعفِهِ عنه.
          قال: وردَّ ذلك آخرون بما ثبتَ في الصَّحيحِ: ((أنَّ اللهَ تعالى خلقَ آدمَ ستِّينَ ذراعاً ثمَّ ما زالَ النَّاسُ ينقصُون حتَّى اليومَ)) قال: وأجابَ بعضُهُم عن هذا بأنَّهُ على الغَالبِ والأكثرِ وغيرُ منكرٍ أن يطولَ الأولادُ عن الآباءِ، وقال صاحبُ ((القاموس)): عُوج بن عُنق _بضمهما_،رجلٌ ولد في منزل آدمَ فعاشَ إلى زمنِ موسى، وذكر من عظيمِ خلقهِ وبشاعتِهِ.
          وقال الطبرانيُّ: في ((المعجم الكبير)): حدَّثنا أبو مسلمٍ الكشيُّ، حدَّثنا مَعمر بنُ عبدِ الله الأنصاريُّ، حدَّثنا المسعوديُّ عن القاسمِ بن عبدِ الرَّحمن عن عبدِ الله بن مسعودٍ قال: كانَ طولُ موسى عليه السَّلام اثني عشرَ ذراعاً وعصَاهُ اثني عشر، ووثبتُهُ اثني عشر فضربَ عوجَ بن عناقٍ فما أصابَ منه إلى كعبِهِ.
          وقال أبو الشَّيخ ابن حيَّان في كتاب ((العظمة)): حدَّثنا إسحاقُ بن جميلٍ، حدَّثنا أبو هشامٍ الرفاعيُّ، حدَّثنا أبو بكر بن عيَّاشٍ، حدَّثنا الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عبَّاٍس، قال: كان أقصرُ قومِ عادٍ سبعينَ ذراعاً وأطولُهم مئة ذراعٍ، وكان طولُ موسى سبعة أذرعٍ وطولُ عصاهُ سبعة أذرع، ووثبَ في السَّماءِ سبعَ أذرعٍ فأصاب كعبَ عوجٍ فقتلَهُ.
          وقال: أنبأنا أحمدُ بن الحسنِ الصوفيُّ، حدَّثنا عليُّ بن الجعد، حدَّثنا أبو خيثمةَ زهير، عن أبي إسحاقٍ الهمدانيِّ عن نوفٍ قال: إنَّ سريرَ عوجٍ الذي قتلَهُ موسى طولُهُ ثمانمائة ذراعٍ، وعرضُهُ أربعمئة ذراعٍ، وكان موسى عشر أذرعٍ وعصَاهُ عشرَ أذرعٍ، ووثبتُهُ حين وثبَ عشرَ أذرعٍ، فأصَابَ عقِبَهُ فخرَّ على نيلِ مصرَ، فحسَرَهُ للنَّاس عاماً يمرُّونَ على صلبِهِ وأضلاعِهِ.
          قال: حدَّثنا أحمدُ بن محمَّدِ المصاحفيُّ، حدَّثنا محمدُ بن أحمد بن البراءِ، حدَّثنا عبدُ المنعمِ بن إدريس، / عن أبيهِ قال: ذكرَ وهب أن عوجَ بن عنقٍ كانت أمُّهُ من بناتِ آدم عليه السلام، وكانت من أحسنهنَّ وأجملهنَّ وكان عوج ممن وُلِدَ في دار آدمَ، وكان جبَّاراً خلقَهُ الله كما شاءَ أن يخلقَهُ ولا يوصف عِظَماً وطولاً وعُمُراً، فعمَّرَ ثلاثة آلاف سنة وستمئة سنة، وكان طولُهُ ثمانمائة ذراع وعرضُهُ أربعمئة ذراع حتى أدركَ زمانَ موسى وكان قد سألَ نوحاً أن يحملَهُ معه في السَّفينةِ، فقال له نوحٌ: لم أؤمرْ بذلك أيْ عدوَّ الله اغربْ عنِّي، فكان الماء زمنَ الغرقِ إلى حجزتِهِ، وكان يتناولُ الحوتَ من البحرِ فيرفعُهُ بيدِهِ في الهواء فيشويهِ بحرِّ الشَّمسِ ثم يأكلُهُ، وكان سبب هلاكِهِ أنَّهُ طلعَ على بني إسرائيل وهمَّ في عسكرِهِم فحزرَهُ حتى عرفَ قدرَهُ، وكان عسكرُهُم فرسخين في فرسخين فعمَدَ إلى جبلٍ فسلخَ منه حجراً على قدْرِ العسكرِ ثم احتملَهُ على رأسِهِ يريد أن يطبقَهُ عليهم، فأرسلَ الله هدهُداً ليريهم قدرتَهُ، فأقبلَ وفي منقارِهِ حجرٌ من السَّامور فجاء الحجرُ على قدْرِ رأسِ عوجٍ، وهو لا يدري ثم ضربَ بجناحِهِ ضربةً فوقع في عنقِهِ فأُخبر موسى خبرَهُ، فخرجَ إليه ومعه العصا فلمَّا نظرَ إليه موسى حملَ عليه فكان قامةُ موسى وبسطتُهُ سبع أذرعٍ فضربَهُ بالعصا أسفلَ من كعبِهِ فقتلَهُ فمكثَ زماناً بين ظهراني بني إسرائيل ميتاً.
          قال السُّيوطيُّ: قلتُ: هذا الخبرُ كذبٌ باطلٌ آفتُهُ عبدُ المنعمِ بن إدريس، قال الذَّهبيُّ في ((الميزان)): قصاصٌ ليس يعتمدُ عليه، تركَهُ غيرُ واحدٍ، وقال أحمدُ بن حنبلٍ: كان يكذِبُ على وهب بن منبَّه، وقال البخاريُّ: ذاهبُ الحديثِ، وقال ابن حبَّان: كان يضَعُ الحديثَ على أبيهِ وعلى غيرِهِ، وما أوردُوا حديثاً من روايتِهِ إلَّا حكموا ببطلانِهِ، بل ذكر ابنُ الجوزيِّ أن أباهُ إدريسَ مترُوكٌ أيضاً فسقطَ هذا الخبرُ بالكلِّيَّةِ.
          قال السُّيوطيُّ: والأقربُ في أمرِهِ أنَّهُ كان من بقيَّةِ عادٍ وأنَّهُ كان له طولٌ في الجملةِ مئة ذراعٍ أو شبهَ ذلك، وأنَّ موسى عليه الصَّلاة والسَّلام قتلَهُ بعصَاهُ؛ لأنَّ هذا القدْرَ المذكورَ هو الذي يحتملُ قَبُوله والله أعلم، انتهى.
          والحاصلُ أن الصَّحيحَ فيه على القولِ بوجودِهِ أنَّهُ لم يكنْ هو مخلوقاً زمنَ الطُّوفانِ، وأن الحكاياتِ المذكورةِ عنه المتعلقِ بالطُّوفانِ لا أصلَ لها، وإنَّما كان بعد الطُّوفانِ من بقيةِ عادٍ قوم هودٍ وأن طولَهُ خارجٌ عن طولِ أبناءِ عصرِهِ فكان نحو مئة ذراعٍ، وأمَّا ما في ((الصحيحينِ)) مما يقتضِي أنَّهم لا يزيدونَ على ستينَ ذراعاً بل ينقصُون محمُولٌ على الغالبِ فلا يردُ نحو هذا، فاعرفهُ.
          وأنَّهُ قتلَهُ موسى عليه الصَّلاة والسَّلام لمَّا قاتلَ الجبَّارين على الصَّحيحِ، ففي البغويِّ في تفسير: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26] ما نصُّهُ: والأصحُّ من الأقوالِ أن موسى قاتلَ الجبَّارين؛ لاتِّفاقِ العلماءِ على أنَّ عوجَ بن عنقٍ قتلَهُ موسى عليه السَّلام، انتهى.