نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الصبر على الأذى

          ░71▒ (بابُ الصَّبْرِ عَلَى الأَذَى) أي: باب فضيلة الصَّبر على أذى النَّاس؛ أي: عن المجازاة على الأذى قولاً، أو فعلاً، والصَّبرُ: حبس النَّفس عن المطلوب حتى يدركَ. وأصل الصَّبر: الحبسُ، ومنهُ سمِّي الصَّوم صبراً؛ لما فيه من حبس النَّفس عن الطَّعام والشَّراب والنِّكاح. ومنه: ((نهى النَّبي صلعم عن صبرِ البهائم)) يعني: عن حبسها للتَّمثيل بها ورميها، كما ترمى الأغراض. قال بعضُ أهل العلم: الصَّبر على الأذى جهاد للنَّفس، وقمعُها عن شهواتها، ومنعها عن تَطاولها، وهو من أخلاقِ الأنبياء والصَّالحين.
          وقد جبلَ الله النَّفس على التَّألم بما يُفعلُ بها، ويقال فيها، ولهذا شَقَّ على النَّبي صلعم نسبتهم له إلى الجورِ في القسمة، لكنَّه حلم عن القائلِ وصبر لما علم من جزيلِ ثواب الصَّابر.
          وقد وردَ في فضلِ الصَّبر على الأذى / حديث ليس على شرط البُخاري، وهو ما أخرجَه ابن ماجه بسند صحيحٍ، عن ابنِ عمر ☻ رفعه: ((المؤمنُ الذي يخالطُ النَّاس ويصبرُ على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالطُ النَّاس، ولا يصبرُ على أذاهم))، وأخرجه التِّرمذي من حديث صحابيِّ لم يسمَّ.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على ((الصَّبر على الأذى)) ({إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]) أراد بالصَّابرين الَّذين صبروا على تحمُّل المشاق، مِن تجرُّع الغصص، واحتمال البلايا في طاعة الله، وازدياد الخير، وقيل: الَّذين صبروا على مفارقةِ أوطانهم وعشائرهِم في مكة، وهاجروا إلى المدينة. وقيل: نزلتْ في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين لم يتركوا دينهِم، قال ابن عبَّاس ☻ : لا يهتدي إليه حساب الحُسَّاب، ولا يُعرف.
          وقال مالك بنُ أنس: هو الصَّبر على فجائعِ الدُّنيا وأحزانها، وقد ذكر الله تعالى الصَّبر في خمسة وتسعين موضعاً في القرآن. وفي «الصَّحيحين» حديث: ((ما أعطيَ أحدٌ عطاءً خيراً وأوسعَ من الصَّبر)) [خ¦1469]، وهو عبارةٌ عن ثبات باعثِ الدِّين في مقاومة باعثِ الهوى. قال في «قوت الإحياء»: وفي البلاء كتمُ الشَّكوى لغيره تعالى، والصَّبي والمجنونُ فيه مثابان، وقد قيل: الصَّابر على الفقرِ أعظم أجراً من المنفق؛ لأنَّ حسنته مضاعفة إلى سبعمائة. وقد تقدَّم في أوائل ((الإيمان)) حديث ابن مسعود ☺: ((والصَّبر نصف الإيمان)) [خ¦2/1-10].