نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن}

          ░58▒ (بابٌ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12]) يقال: جنَّبه الشَّر إذا أبعده عنه، وحقيقته: جعله في جانب، فيعدى إلى مفعولين، قال الله تعالى: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] ومطاوعه اجتنب الشَّر فنقص مفعولاً، والمأمور باجتنابه هو بعض الظَّن وذلك البعض موصوفٌ بالكثرة، ألا ترى إلى قوله:
          ({إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}) يستحقُّ صاحبه العقاب، قال الزجاج(1) : هو أن تظنَّ بأهل الخير سوءاً، فأمَّا أهل الفسق فلنا أن نظنَّ فيهم مثل الَّذي ظهر منهم، ويجوز أن يكون من مجاز الحذف تقديره: اجتنبوا كثيراً من اتِّباع الظنِّ إنَّ اتِّباع بعض الظنِّ إثمٌ. وفي قوله: {كثيراً من الظَّنِّ إنَّ بعض الظنِّ إثمٌ} دلالةٌ على أنَّه لم ينهِ عن جميع الظنِّ، فإنَّ الظنَّ على أربعة أوجهٍ: محظورٌ، ومأمورٌ به، ومباحٌ، ومندوب إليه.
          فالمحظور هو: سوء الظنِّ بالله تعالى، وكذلك الظَّن بالمسلمين الَّذين ظاهرهم العدالة محظورٌ. / والمأمور به هو: ما لم ينصب عليه دليلٌ يُوصل إلى العلم به، وقد تُعبِّدنا بتنفيذ الحكم فيه فالاقتصار على غالب الظنِّ وإجراء الحكم واجبٌ، وذلك نحو ما تُعبِّدنا به من قبول شهادة العدول وتحري القبلة، وتقويم المستهلكات وأروش الجناياتِ الَّتي لم يرد مقاديرها بتوقيفٍ من قبل الشَّرع، فهذا ونظائره قد تُعبِّدنا فيه بغالب الظَّن.
          والمباح: كالشَّك في الصَّلاة إذا كان إماماً، فإنَّ النَّبي صلعم أمره بالتَّحرِّي والعمل بغالب الظنِّ، فإن فعله كان مباحاً، وإن عُدِلَ عنه إلى غيره من البناء على اليقين كان جائزاً. والمندوب إليه: كإحسان الظنِّ بالأخ المسلم يندب إليه ويُثاب عليه.
          (وَلاَ تَجَسَّسُوا) أي: لا تتَّبعوا عورات المسلمين ومعائبهم، وقد سقط لفظ: «باب» في رواية أبي ذرٍّ.


[1] هكذا في الأصل، وفي الإرشاد: ((الفراء)) وعنه ينقل المصنف