نجاح القاري لصحيح البخاري

باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل

          ░39▒ (بابُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءِ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الْبُخْلِ) جمع في التَّرجمة بين هذه الأمور الثَّلاثة؛ لأنَّ السَّخاء من جملة محاسن الأخلاق، بل هو من أعظمها، والبخل ضدُّه، فأمَّا الحسن فقال الرَّاغب: هو عبارةٌ عن كلِّ مرغوبٍ فيه إمَّا من جهة العقل (1)، وإمَّا من جهة العرض، وإمَّا من جهة الحُسن، وأكثر ما يُقال في عُرف العامَّة فيما يدرك بالبصر، وأكثر ما جاء في الشَّرع فيما يُدرك بالبصيرة. انتهى ملخَّصاً. /
          وأمَّا الخُلُق: فهو بضم الخاء واللام ويجوز سكونها. قال الرَّاغب: الخَلق والخُلق يعني: بالفتح والضم في الأصل بمعنىً واحدٍ كالشَّرب والشُّرب، لكن خُصَّ «الخَلق» الَّذي بالفتح بالهيئات والصُّور المدركة بالبصر، وخُصَّ «الخُلق» الَّذي بالضم بالقوى والسَّجايا المدركة بالبصيرة. انتهى.
          وقد كان صلعم يقول: ((اللهمَّ كما حسَّنت خَلقي فحسِّن خُلقي)) أخرجه أحمد وصحَّحه ابن حبَّان، وفي حديث عليٍّ ☺ الطَّويل في حديث دعاء الافتتاح عند مسلمٍ: ((واهدني لأحسن الأخلاقِ لا يُهدي لأحسنها إلَّا أنت)).
          وقال القرطبيُّ في «المفهم»: الأخلاق: أوصاف الإنسان الَّتي يُعامل بها غيره، وهي محمودةٌ ومذمومةٌ.
          فالمحمودةُ على الإجمال: أن تكونَ مع غيرك على نفسكِ فتنصف منها ولا تنتصف لها، وعلى التَّفصيل: العفو والحِلْم والجود والصَّبر وتحمُّل الأذى والرَّحمة والشَّفقة وقضاء الحوائج والتَّوادد ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضدُّ ذلك.
          وأمَّا السَّخاء فهو بمعنى: الجود، وهو بذلُ ما يقتنى بغير عوضٍ، وقيل: هو إعطاء ما ينبغي لمَن ينبغي، وعَطْفه على «حُسن الخلق» من عطف الخاصِّ على العامِّ، وإنَّما أفرد للتَّنويه.
          وأمَّا البخل: فهو منع ما يُطلب ممَّا يقتنى، وشرُّه ما كان طالبه مستحقًّا، لاسيَّما إن كان من غير مال المسؤول، وليس هو من صفات الأنبياء، ولا جلَّة الفضلاء، وأمَّا قوله: «وما يُكره من البخل»، فأشار به إلى أنَّ بعض ما يجوزُ انطلاق اسم البخل عليه قد لا يكون مذموماً.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : (كَانَ النَّبِيُّ صلعم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ) قوله: «وأجودُ ما يكون» يجوز بالرَّفع والنَّصب، أمَّا الرفع فهو أكثر الرِّوايات، ووجهه: أن يكون مبتدأً وخبره محذوفٌ، وكلمة «ما» مصدريَّة، نحو قولك: أخطبُ ما يكون الأمير قائماً؛ أي: أجودُ أكوان الرَّسول حاصلٌ أو واقعٌ في رمضان، وأمَّا النصب فبتقدير لفظ: كان؛ أي: كان أجودَ الكون في شهر رمضان، وأمَّا كون أكثريَّة جوده في رمضان فلأنَّه شهرٌ عظيمٌ، وفيه الصَّوم، وفيه ليلة القدر والصَّوم / أشرف العبادات، فلذلك قال: ((الصَّوم لي وأنا أجزي به)) [خ¦7492]. فلا جرم يتضاعف ثواب الصَّدقة والخير فيه، ولهذا قال الزُّهري: تسبيحةٌ في رمضان خيرٌ من سبعين في غيره.
          (وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ) ☺: (لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلعم قَالَ لأَخِيهِ) كذا في رواية الأكثر بتكريرِ: «قال»، وفي رواية الكشميهنيِّ: <وكان أبو ذرٍّ... إلى آخره>، وهي أَولى (ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي) أراد به مكَّة (فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَرَجَعَ) أي: فركبَ وسمع فرجع ففيه حذفٌ، والفاء فيه فصيحةٌ (فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ) أي: الفضائل والمحاسن، لا الرَّذائل والقبائح، قال صلعم : ((بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق)). وهذا طرفٌ من قصَّة إسلام أبي ذرٍّ تقدَّمت موصولةً مطوَّلة في «المبعث النَّبوي» [خ¦3861]، والغرض منه قوله: ((يأمر بمكارمِ الأخلاق)).
          والمكارم: جمع مكرُمة _بالضم_، وهي من الكرمِ، قال الرَّاغب: وهو اسم الأخلاقِ وكذلك الأفعال المحمودة، قال: ولا يقال للرَّجل: كريم حتَّى يظهر ذلك منه، ولمَّا كان أكرمُ الأفعال ما يُقصد به أشرفُ الوجوه، وأشرفها ما يقصدُ به وجه الله، وإنَّما يحصل ذلك من المتَّقي، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وكل فائقٍ في بابه يُقال له: كريمٌ.


[1] في هامش الأصل: نسخة: الفعل.