نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}

          ░56▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90]) بالتَّسوية بينكم في الحقوق، وترك الظُّلم وإيصال كلِّ حقٍّ إلى صاحبه ({وَالإِحْسَانِ}) إلى من أساء إليكم ({وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}) وإعطاء ذي القَرابة وهو: صلة الرَّحم ({وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}) أي: عن الذُّنوب المفرطة في القبح ({وَالْمُنْكَرِ}) ما تنكره العقول، وقيل: عن كلِّ فعلٍ وقولٍ قبيحٍ، وقال ابن عبَّاس ☻ : هو الزِّنا ({وَالْبَغْيِ}) طلب التَّطول بالظُّلم والكِبر ({يَعِظُكُمْ}) حالٌ أو مستأنفٌ ({لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]) تتَّعظون بمواعظ الله، وسقط في رواية أبي ذرٍّ قوله: <{وإيتاء ذي القربى...} إلى آخره> وقال بعد {وَالْإِحْسَانِ}: <الآية>.
          وقد اختلف السَّلف في المراد بالعدل والإحسان في الآية:
          فقيل: العدل: لا إله إلَّا الله، والإحسان: الفرائضُ، قاله ابن عبَّاس ☻ ، وقيل: العدل: لا إله إلَّا الله، والإحسان: الإخلاص، وقيل: العدل: خلع الأنداد، والإحسان: أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، وهو بمعنى الَّذي قبله، وقيل: العدل: الفرائض، والإحسان: النَّافلة، وقيل: العدل: العبادة، والإحسان: الخشوعُ فيها، وقيل: العدل: الإنصاف، والإحسان: التَّفضُّل، وقيل: العدل: امتثال المأمورات، والإحسان: اجتناب المنهيَّات، / وقيل: العدلُ: بذل الحقِّ، والإحسانُ: ترك الظُّلم، وقيل: العدلُ: استواء السِّرِّ والعلانية، والإحسان: أن تكون السَّريرة أفضلُ من العلانية، قاله ابن عُيينة. وقيل: العدلُ: البذل، والإحسانُ: العفو، وقيل: العدلُ في الأفعال، والإحسانُ في الأقوالِ وغير ذلك، وأقربها هنا الخامس والسَّادس.
          وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: العدلُ بين العبد وبين ربِّه: بامتثال أمره واجتناب مناهيه، وبين العبد وبين نفسهِ: بمزيد الطَّاعات، وتوقِّي الشَّهوات والشُّبهات، وبين العبد وبين غيره بالإنصاف. انتهى ملخَّصاً.
          وقال الرَّاغب: العدل ضربان: مطلقٌ يقتضِي العقل حسنه ولا يكون في شيءٍ من الأزمنة منسوخاً، ولا يُوصف بالاعتداء بوجهٍ نحو: أن تُحسنَ لمن أحسنَ إليك وتكفَّ الأذى عمَّن كفَّ أذاه عنك.
          وعدل يُعرف بالشَّرع ويمكن أن يدخله النَّسخ ويوصف بالاعتداء مقابلةً كالقصاص وأرش الجنايات وأخذ مال المرتدِّ، ولذا قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الاية [البقرة:194]، وهذا النَّحو هو المعنيُّ بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل:90]، فإنَّ العدل: هو المساواة في المكافأة في خيرٍ أو شرٍّ، والإحسان: مقابلةُ الخير بأكثر منه، والشَّر بالتَّرك، أو بأقل منه.
          (وَقَوْلِهِ) تعالى بالجرِّ عطف على ما قبله ({إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23]) أي: ظلمكم يرجع عليكم كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46]، يعني: أنَّ إثم البغي وعقوبة البغي على الباغي إمَّا عاجلاً وإمَّا آجلاً، قال ابن عُيينة: المراد بها: أنَّ البغي تُعجل عقوبته في الدُّنيا لصاحبه يقال: للبغي مصرعةً.
          ({ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60]) عطفٌ على سابقه، كذا في رواية كريمة والأَصيليِّ على وَفْق التِّلاوة، وكذا في رواية النَّسفي وأبي ذرٍّ، ووقع في رواية الباقين: <ومن بغي عليه> وهو خلاف التِّلاوة. قال الحافظ العسقلانيُّ: وهو سبق قلم، إمَّا من المصنِّف، وإمَّا ممَّن بعده، كما أن المطابق للتلاوة / إمَّا من المصنِّف وإمَّا من إصلاح من بعده، وإذا لم تتَّفق الرِّوايات على شيءٍ فمن جزم بأنَّ الوهم من المصنِّف فقد تحامل عليه.
          وقال العينيُّ: الظاهر أنَّه من النَّاسخ واستمرَّ عليه في رواية غير هؤلاء المذكورين، وهو عطفٌ على سابقه؛ أي: من جازى بمثل ما فعل به من الظُّلم، ثمَّ ظُلِم بعد ذلك، فحقٌّ على الله أن ينصره؛ يعني: أنَّ الله ╡ ضَمِن نُصرة من بُغي عليه. والأولى لمن بُغي عليه أن يشكرَ الله على ما ضَمِن من نصرهِ، ويقابل ذلك بالعفو عمَّن بغى عليه، وقد كان له الانتقام فيه؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، لكن الصَّفح عنه أولى عملاً بقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43].
          وقد أخبرت عائشة ♦ أنَّه صلعم كان لا ينتقمُ لنفسه ويعفو عمَّن ظلمه. وقال الرَّاغب: البغيُّ: مجاوزةُ القصد في الشَّيء، فمنه ما يُحمدُ ومنه ما يذمُّ، فالمحمودُ مجاوزة العدل الَّذي هو الإتيان بالمأمور بغير زيادةٍ فيه، ولا نقصان منه إلى الإحسان، وهو الزِّيادة عليه.
          ومنه الزِّيادة على الفرض بالتَّطوع المأذون فيه، والمذموم: مجاوزة العدلِ إلى الجور، والحقِّ إلى الباطل، والمباح إلى الشُّبهة، ومع ذلك فأكثر ما يُطلق البغي على المذموم. قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى:42]، وقال تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23]، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [النحل:115]، فإذا أطلق البغي وأريد به المحمود يزاد فيه غالباً التَّاء، كما قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17]، وقال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} [الإسراء:28]، وقال غيره: البغي الاستعلاء بغير حقٍّ، ومنه: بغى الجُرحُ: إذا فسد.
          (وَتَرْكِ إِثَارَةِ الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ) أي: باب ترك تهييج الشَّر إدخال المسلم يقتضي إطفاء الشَّر عن النَّاس أجمعين.