نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الوصاة بالجار

          ░28▒ (بابُ الْوَصَاءةِ بِالْجَارِ) الوَصَاءة: بفتح الواو وتخفيف الصاد المهملة وبالمد والهمزة؛ أي: الوصيَّة، ويروى: <الوصاية> بإبدال الهمزة ياءً، وهما بمعنى، يقال: أوصيت له بشيءٍ، والاسم: الوِصاية _بالكسر والفتح_ وأوصيته ووصَّيته بمعنى، والاسم: الوصاءة. ووقع في «شرح ابن الملقن»: <بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب البرِّ والصِّلة، باب الوصاءة بالجارِ>. قال ابن الملقِّن: لما فرغ من حديث جريرٍ في آخر الباب السَّابق. قال: هذا آخر كتاب الأدبِ، ثمَّ ذكر البسملة وما بعدها، ورواية النَّسفي: <بسم الله الرحمن الرحيم، باب الوصاءة بالجار>، وكأنَّه للانتقال إلى نوع غير الذي قبله.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: ولم أرَ ذلك في شيءٍ من الرِّوايات التي اتَّصلت لنا. قال: ويُؤيِّد ما عندنا: أنَّ أحاديث صلة الرَّحم تقدَّمت، وأحاديث برِّ الوالدين قبلها، والوصيَّة بالجار وما يتعلَّق بها ذُكرت هنا وتلاها باقي أبواب الأدب، وقوله هنا بعد الباب: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] يؤيِّد ذلك؛ لأنَّه بوَّب على ترتيب ما في هذه الآية، فبدأ ببرِّ الوالدين، وثنَّى بذي القربى، وثلَّث بالجار، وربَّع بالصَّاحب بالجنب، ولم يقع ذلك لدينا أيضاً في «مستخرج الإسماعيلي»، ولا أبي نُعيمٍ.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على قوله: «الوصاءة بالجار»، والمقصودُ من إيراد هذه الآية ما فيها من الإحسان بالجار ذي القُربى، والجار الجنب، والمذكور من الآية المذكورةِ على هذا الوجه هو رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذرٍّ: <{وَاعْبُدُوا اللَّهَ} إلى قوله {إِحْسَاناً} الآية>. وفي رواية النَّسفي: <وقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية>.
          {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} أي: وحِّدوه {وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] أي: وأحسنوا بهما إحساناً، ذكر عبادة الله تعالى وإحسانَ الوالدين وما بعده في قرنٍ واحدٍ؛ تفخيماً للشَّأن (إِلَى قَوْلِهِ: {مُخْتَالاً فَخُوراً}) يريد قوله تعالى: {وَبِذِي الْقُرْبَى} أي: الإحسان إلى القرابات من الرِّجال والنِّساء / {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء:36] قال عليُّ بن أبي طلحة: عن ابن عبَّاس ☻ : {الجار ذي القُربى} يعني: الَّذي بينك وبينه قرابةٌ، {والجار الجنب} الَّذي ليس بينك وبينه قرابةٌ، وكذا روي عن عكرمة ومجاهدٍ والضَّحاك وقتادة ومقاتل بن حيَّان.
          وقال أبو إسحاق عن نوف البكَّالي أحد التَّابعين: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يعني: المسلم {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يعني: اليهوديُّ والنَّصراني رواه ابن جرير، وابن أبي حاتمٍ. وقال جابر الجعفيُّ عن الشَّعبي عن عليٍّ وابن مسعودٍ ☻ : {والجار ذي القُربى} يعني: المرأة، وقال مُجاهد: {والجار الجنب} يعني: الرَّفيق في السَّفر {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قال الثَّوري عن جابر الجعفيِّ عن الشَّعبي عن علي وابن مسعودٍ ☻ قالا: هي المرأة. ورُوِي كذلك عن الحسنِ وإبراهيم وسعيد بن جبيرٍ في روايةٍ، وفي روايةٍ أخرى: هو الرَّفيق الصالح. وقال زيدُ بن أسلم: هو جليسُك في الحضرِ، ورفيقك في السَّفر {وَابْنِ السَّبِيلِ} هو الضَّيف، قاله ابن عبَّاسٍ ☻ ، وقال مجاهد والحسن والضَّحَّاك: هو الذي يمرُّ عليك مجتازاً في السَّفر.
          {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني: الأرقَّاء؛ لأن الرَّقيق ضعيف الجنبة أسيرٌ في أيدي النَّاس {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً} أي: متكبِّراً معجباً {فَخُوراً} [النساء:36]: على النَّاس يرى أنَّه خيرٌ منهم، فهو في نفسه كبيرٌ، وهو عند الله تعالى حقيرٌ، وعند النَّاس بغيضٌ.