نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم}

          ░43▒ (بابُ: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]) وسقط قوله: «{عَسَى أَنْ يَكُونُوا}» إلى آخره في رواية أبي ذرٍّ، وقال من بعد {قَوْمٍ}: <إلى آخره>. وفي رواية النَّسفي: مثل ما ذُكِر إلى قوله: {هُمُ الظَّالمون}. وفي نسخة صاحب «التوضيح»: <باب قول الله ╡: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى} إلى {الظَّالِمُونَ}>. فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] يعني: لا يطعن قومٌ من قومٍ؛ أي: لا يستهزئ بعضُهم ببعضٍ، ولا ينظر إليه بعين الإذلال والتَّحقير، ولا يسقطُه عن درجته.
          {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} [الحجرات:11] عند الله، قالوا: إنَّ بعض الصَّحابة استهزأ بفقراء الصُّفَّة، وأزواجُ النَّبي صلعم عيَّرنَ أمَّ سلمة بالقِصَر، وأنَّ صفيَّة بنت حيي أتت النَّبي صلعم فقالت: إنَّ النِّساء يعيِّرنني ويقلن: يا يهوديَّة بنت يهوديين، فقال صلعم : ((هلَّا قلتِ: إنَّ أبي هارون، وعمِّي موسى، وإنَّ زوجي محمد)) فنزلت.
          {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات:11]: والقوم: الرِّجال خاصَّةً؛ لأنَّهم القُوَّام بأمور النِّساء، وهو في الأصل جمع قائمٍ؛ كصُوَّم وزُوَّر جمع صائمٍ وزائرٍ، لكن فعل ليس من أبنية التَّكسير إلَّا عند الأخفش نحو: ركب وصحب.
          واختصاص القوم بالرِّجال صريحٌ في الآية، إذ لو كانت النِّساء داخلة في {قومٍ} لم يقل: {وَلَا نِسَاءٌ}، وحقَّق ذلك زهير في قوله:
وَمَا أَدْرِي وَلَسْتُ أَخَالُ أَدْرِي                     أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
          فاختصاص القوم بالرِّجال في الآية من عطفِ {وَلَا نِسَاءٌ} على {قَومٌ}، وفي الشِّعر مَنْ جعل أحد المتساويين يلي الهمزة والآخر يلي «أَمْ»، وتنكير «القوم» و«النِّساء» يحتمل معنيين: أن يُراد لا يسخر بعضُ المؤمنين والمؤمنات من بعضٍ، وأنْ يقصد / إفادة الشياع، وأن تصيرَ كلُّ جماعةٍ منهيَّة عن السُّخرية.
          قال في «الانتصاف»: لو عرَّف المؤمنين فقال: لا يسخر المؤمنون والمؤمنات بعضُهم من بعضٍ لعمَّ، ومراده أنَّ في التَّنكير يحصل أنَّ كل جماعةٍ منهيَّة على التَّفصيل [وهو] أوقع.
          وقال الطِّيبيُّ: استغراق الجنس أيضاً يراد منه التَّفصيل، والمعرَّف بتعرُّف العهد الذِّهني مفيدٌ للتفصيل أيضاً كالنَّكرة، إذ المعنى: لا يسخر من كان مسمَّى بالقوم من قومٍ مثله. قال ابن جنِّي: مفاد نكرةِ الجنس مفادُ معرفته من حيث كان في كلِّ جزءٍ منه معنى ما في جملته. انتهى.
          وقوله: {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} [الحجرات:11] كلامٌ مستأنفٌ وَرَدَ مورد جواب المستخبر عن علَّة النَّهي، وإلَّا فقد كان حقَّه أن يوصلَ بما قبله بالفاء، والمعنى: وجوب أن يعتقدَ كلُّ واحدٍ أنَّ المسخور منه ربَّما كان عند الله خيراً من السَّاخر، إذ لا اطَّلاع للنَّاس إلَّا على الظَّواهر، ولا علم لهم بالسَّرائر، والَّذي يزن عند الله خلوص الضَّمائر، فينبغي أن لا يجترئ أحدٌ على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رثَّ الحال، أو ذا عاهةٍ في بدنه، أو غيره لبيق؛ أي: غير حاذقٍ في محادثته، فلعلَّه أخلصُ ضميراً وأتقى قلباً ممَّن هو على ضدِّ صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقَّره الله تعالى.
          وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة ☺ رفعه في أثناء حديث: ((بحسب امرئٍ من الشَّر أن يحقِّر أخاهُ المسلم))، وعن ابن مسعودٍ ☺: البلاء موكَّلٌ بالقول، لو سخرت من كلبٍ لخشيتُ أن أحوَّل كلباً. وعن أحمد: لو عيَّرتُ الحُبلى لخشيت الحبل.
          وقوله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات:11] اللَّمز: الطَّعن والضَّرب باللِّسان، ومعناه: لا تفعلوا ما تلمزون به، وفيه وجهان:
          أحدهما: عيب الإنسان الأخ فإذا عابهُ فكأنَّه عاب نفسه.
          والثَّاني: أنَّه إذا عابه ولا يخلو من عيبٍ فيعيبه المعيَّب فيكون هو بعيبه حاملاً لغيره على عيبه، فكأنَّه هو العائب نفسه، والحاصل: أنَّ من فعل ما استحقَّ به اللَّمز فقد لمز نفسه حقيقةً.
          وقوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11] أي: لا تداعوا بالألقاب السَّيئة الَّتي يُساء الإنسان بها، فالتَّنابز بالألقاب: التَّداعي بها، تفاعل من نبزه، والنَّبز: اللَّقب السُّوء.
          ولمَّا قدم النَّبي صلعم المدينة وجدهم بألقاب / يُدعَون، فجعل الرَّجل يدعو الرَّجل بلقبه، فقيل: يا رسول الله إنَّهم يكرهون هذا فنزلت: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}.
          واللَّقب المنهيُّ عنه هو اللَّقب السُّوء، وأمَّا اللقب الَّذي فيه التَّنويه بالحسن فلا بأس به، كما قيل لأبي بكرٍ ☺: عتيقٌ، ولعمر ☺ فاروقٌ، ولعثمان ☺ ذو النُّورين، ولعلي ☺ أبو ترابٍ، ولخالد ☺ سيف الله، ونحو ذلك.
          وقوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات:11] أي: بئس الذِّكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذهِ الجرائم أن يُذكروا بالفسقِ. وقيل: أن يقول له: يا يهوديُّ يا نصرانيُّ يا فاسق بعدما آمن، وبعد الإيمان يستقبح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الَّذي يحظره الإيمان.
          {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} عمَّا نُهي عنه من التَّنابز وغيره {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] أي: الضَّارون لأنفسهم بمعصيتهم.