نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما يجوز من الهجران لمن عصى

          ░63▒ (بابٌ مَا يَجُوزُ مِنَ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى) لينتهي عن عصيانه. قال المهلَّب: غرض البخاريِّ من هذا الباب أن يبيِّن صفة الهجران الجائز، وأنَّه يتنوَّع بقدر الجرم فمن كان من أهل العصيان جرمه كثيراً، فينبغي هجرانه واجتنابه وترك مكالمته، كما جاء في كعب بن مالك وصاحبيه، وما كان المغاضبة بين الأهل والإخوان فالهجران الجائز فيها ترك التَّحيَّة والتَّسمية، وبسط الوجه مع عدم هجر السَّلام والكلام، كما فعلت عائشة ♦ مع رسول الله صلعم .
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: أراد بهذه التَّرجمة بيان الهجران الجائز؛ لأنَّ عموم النَّهي مخصوصٌ بمن لم يكن لهجره سببٌ مشروعٌ، فبيَّن هنا السَّبب المسوِّغ للهجر، وهو لمن صدرت منه معصيةٌ، فيسوغ لمن اطَّلع عليها هجره؛ ليكفَّ عنها. وقال الكرمانيُّ: لعلَّه أراد قياسَ هجران من يخالفُ الأمر الشَّرعي على هجران من يخالفُ الأمر الطَّبيعي، وفيه نظرٌ.
          (وَقَالَ كَعْبٌ) هو: ابن مالك الأنصاري (حِينَ تَخَلَّفَ) في غزوة تبوك (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) قال كذا وكذا (وَنَهَى النَّبِيُّ صلعم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا) زاد في «غزوة تبوك»: ((أيُّها الثَّلاثة من بين من يتخلَّف عنه، واجتنبنا النَّاس...)) الحديث [خ¦4418]، وسمِّي الاثنين وهما مرارة بن الرَّبيع، وهلال بن أميَّة.
          (وَذَكَرَ) أنَّ زمان هجرة المسلمين عنهم كانت (خَمْسِينَ لَيْلَةً) وهذا الَّذي ذكره طرفٌ من الحديث الطَّويل، وتقدَّم شرحه مستوفىً في أواخر «المغازي» [خ¦4418].
          قال الطَّبري: قصَّة كعب بن مالكٍ أصلٌ في هجران أهل المعاصي. وقد استُشكل كون هجران الفاسق والمبتدع مشروعاً، ولا يشرع هجران الكافر، وهو أشدُّ جرماً / منهما؛ لكونهما من أهل التَّوحيد في الجملة. وأجاب ابن بطَّال: بأنَّ لله تعالى أحكاماً فيها مصالح العباد، وهو أعلمُ بشأنها وعليهم التَّسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنَّه تَعبُّد لا يعقل معناه.
          وأجاب غيره: بأنَّ الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، وبترك التَّودُّد والتَّعاون والتَّناصر، لاسيما إذا كان حربيًّا، وإنَّما لم يُشْرَع هجرانه بالكلام؛ لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم، فإنَّه ينزجر بذلك غالباً، ويشترك كلٌّ من الكافر والعاصي في مشروعيَّة مكالمته بالدُّعاء إلى الطَّاعة، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وإنَّما المشروع ترك المكالمة بالمواددة ونحوها.