نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الغيبة

          ░46▒ (بابُ) تحريم (الْغِيبَةِ) بكسر المعجمة. قال الكرمانيُّ: وهي أن يُتكلَّم خلفَ إنسانٍ بما يغمُّه لو سمعه وكان صدقاً، وأمَّا إذا كان كذباً سُمِّي بهتاناً، وقيل: هي ذكر المسلم الغير المعلن بفجورهِ في غَيبتهِ بما يكرهُ، ولو بغمزٍ أو بكتابةٍ أو إشارةٍ. وقال الرَّاغب: هي أن يذكرَ الإنسان عيب غيره من غير محوجٍ إلى ذلك. وقال الغزاليُّ: حدُّ الغيبة أن تذكرَ أخاك بما يكرههُ لو بلغه.
          وقال ابنُ الأثير في «النهاية»: الغيبة: أن يُذكَرَ الإنسانُ في غيبتهِ بسوءٍ، وإن كان فيه. وقال النَّووي في «الأذكار» تبعاً للغزاليِّ: ذِكْرُ المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشَّخص، أو دينه أو دنياه، أو نفسه أو خُلقه، أو ماله أو والده أو ولده، أو زوجهِ أو خادمه، أو ثوبه أو حركتهِ، أو طلاقته أو عبوسه، أو غير ذلك ممَّا يتعلَّق به سواء ذكره باللَّفظ، أو بالإشارة والرَّمز.
          وممَّن يستعمل التَّعريض في ذلك كثيرٌ من الفقهاء في التَّصانيف، وفي غيرها، كقولهم: قال بعض من يدَّعي العلم، أو بعض من ينسب إلى الصَّلاح، أو نحو ذلك ممَّا يفهم السَّامع المراد منه. ومنه قولهم عند ذكره: الله يعافينا، ونحوه نحو: نسأل الله السَّلامة، وكلُّ ذلك من الغيبة، إلَّا أن يكون ذلك نصحاً لطالبٍ شيئاً لا يعلم عينه، ونحو ذلك، وسيأتي مزيد لذلك.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على السابق {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] نهى عن الغيبة نهي تحريمٍ اتِّفاقاً. /
          وتمسَّك من قال: إنَّها لا يشترط فيها غَيبة الشَّخص، بالحديث المشهور الَّذي أخرجه مسلم وأصحاب «السنن» عن أبي هريرة ☺ رفعه: ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذِكرك أخاك بما يكرهه)) قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: ((إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبتهُ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه)).
          وله شاهدٌ مرسلٌ عن المطَّلب بن عبد الله عند مالك، فلم يقيِّد ذلك بغَيبة الشَّخص، فدلَّ على أنْ لا فرق بين أن يقال ذلك في غيبته، وفي حضورهِ، والأرجح اختصاصها بالغَيبة مراعاةً لاشتقاقها، وبذلك جزم أهل اللُّغة.
          وقال ابن التِّين: الغِيبة: ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب. وكذا قيَّده الزَّمخشري، وأبو نصر بن القشيري في «التفسير»، وابن خميس في جزءٍ له مفرد في «الغيبة»، والمنذري، وغير واحدٍ من العلماء من آخرهم الكرمانيُّ، وكلام من أطلق منهم محمولٌ على المقيَّد في ذلك.
          نعم، المواجهة بما ذكر حرامٌ، لكنَّه داخل في السَّب والشتم، وأمَّا حكمها فقال النَّووي في «الأذكار»: الغيبة والنَّميمة محرَّمتان بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت الأدلَّة على ذلك. انتهى.
          وذكر في «الروضة» تبعاً للرَّافعي: أنَّها من الصَّغائر، وتعقَّبه جماعةٌ. ونقل أبو عبد الله القرطبي في «تفسيره» الإجماع على أنَّها من الكبائر؛ لأنَّ حدَّ الكبيرة صادق عليها؛ لأنَّها ممَّا ثبت الوعيد الشَّديد فيه.
          وقال الأذرعيُّ: لم أرَ من صرَّح بأنها من الصَّغائر، إلَّا صاحب «العدة» والغزالي، وصرَّح بعضهم: بأنَّها من الكبائر.
          وإذا لم يثبتِ الإجماع فلا أقل من التَّفصيل، فمَن اغتاب وليًّا لله أو عالماً ليس كمن اغتاب مجهول الحال مثلاً، وقد قالوا ضابطها: ذكر الشَّخص بما يكره، وهذا يختلفُ باختلاف ما يُقال فيه، وقد يشتدُّ تأذِّيه بذلك وأذى المسلم محرَّمٌ.
          وذكر النَّووي من الأحاديث الدَّالة على تحريم الغيبة: حديث أنس ☺ رفعه: ((لمَّا عُرج بي مررت بقومٍ لهم أظفار من نحاسٍ يَخْمشون بها وجوههم وصدورهم، قلتُ: من هؤلاء يا جبريلُ، / قال: هؤلاء الَّذين يأكلون لحوم النَّاس ويقعونَ في أعراضهم)) أخرجه أبو داود. وله شاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ ☻ عند أحمد.
          وحديث سعيدٍ بن زيد ☺ رفعه: ((إنَّ من أربى الرِّبا الاستطالة في عرض المسلم بغير حقٍّ)) أخرجه أبو داود. وله شاهد عند البزَّار وابن أبي الدُّنيا من حديث أبي هريرة ☺، وعند أبي يَعلى من حديث عائشة ♦، ومن حديث أبي هريرة ☺ رفعه: ((مَن أكل لحم أخيه في الدُّنيا قُرِّب له لحمه يوم القيامة فيقال له: كله ميتاً كما أكلته حيًّا فيأكله ويكلح ويصيح)) سنده حسنٌ. وقال الحافظ ابن كثيرٍ: غريب جداً، وصحَّ: ((دماؤكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ وسامعها شريكه ما لم يُنكرها بلسانهِ ومع خوفه بقلبه)).
          وفي «الأدب المفرد»: عن ابن مسعودٍ ☺ قال: ((ما التقمَ أحدٌ لقمةً شراً من اغتيابِ مؤمن...)) الحديث. وفيه أيضاً _وصحَّحه ابن حبَّان_ من حديث أبي هريرة ☺ في قصَّة ماعز ورجمه في الزِّنا: وأنَّ رجلاً قال لصاحبه: انظر إلى هذا الَّذي ستر الله عليه فلم يدعْ نفسه حتَّى رُجم رَجم الكلب، فقال لهما النَّبي صلعم : ((كُلا من جيفة هذا الحمار لحمارٍ ميِّتٍ، فما نلتُما من عرض هذا الرَّجل أشد من أكل هذه الجيفة)).
          وأخرج أحمد والبخاريُّ في «الأدب المفرد» بسندٍ حسنٍ عن جابر ☺، قال: كنَّا مع النَّبي صلعم فهاجت ريحٌ مُنتنة، فقال النَّبي صلعم : ((هذه ريح الَّذين يغتابون المؤمنين)).
          وهذا الوعيد الشَّديد في هذه الأحاديث يدلُّ على أنَّ الغيبة من الكبائر، لكن تقييدُه في بعضها بغير حقٍّ قد يُخرج الغيبة لما تقرَّر أنَّها ذكر المرء بما فيه.
          (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) تمثيلٌ وتصويرٌ لما يناله المغتاب من عرضِ المغتاب على أفحش وجهٍ، وفيه مبالغاتٌ، منها: الاستفهام التَّقريري وجعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبَّة، ومنها: إسناد الفعل إلى «أحدكم»، والإشعار بأنَّ أحداً من الأحدِين لا يحب ذلك، ومنها: أنَّه لم يقتصر على تمثيلِ الاغتياب بأكل لحمِ الإنسان حتَّى جعلَ الإنسان أخاً، ومنها: أنَّه لم يقتصر على لحم الأخ حتَّى جعلَه ميتاً. ووجه المناسبة: إدارة حنكهِ / كالآكل.
          وعن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفةً مدودةً أن تأكلَ منها؛ كذلك فاكْرَهْ لحمَ أخيك وهو حيٌّ.
          وانتصب «ميتاً» على الحال من اللَّحم، أو من «أخيه»، ولما قرَّرهم بأنَّ أحداً منهم لا يحبُّ أكل جيفة أخيهِ عقَّب ذلك بقوله:
          (فَكَرِهْتُمُوهُ) أي: فتحقَّقت كراهتكم له باستقالةِ العقل، فليتحقَّق أيضاً أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الدِّين (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) التَّوَّاب البليغ في قبول التَّوبة، والمعنى: واتَّقوا الله بترك ما أمرتُم باجتنابه والنَّدم على ما وُجد منكم منه، فإنَّكم إن اتَّقيتم تقبَّل الله توبتكم، وأنعم عليكم بثواب المتَّقين التَّائبين، وقيل: غيبة الخلق، إنَّما تكون بالغيبة عن الحقِّ، عافانا الله من المكاره بمنِّه وكرمه، وقد سقط في رواية أبي ذرٍّ قوله: <أيحبُّ... إلى آخره>، وقال بعد قوله بعضاً: <الآية>.