نجاح القاري لصحيح البخاري

باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة

          ░114▒ (بابُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ) من الأجانب (مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ) أي: تُهْمَةٍ، وأشار المُصَنِّف بهذا إلى أنَّ عنده جواز نظر المرأة / إلى الأجنبي دون الأجنبي إليها، وإنَّما ذَكَرَ الحبشةَ وإن كان الحكم في غيرهم كذلك لأجل ما وردَ في حديث الباب على ما يأتي، وأراد البُخاري به الرَّدَّ على من مَنَعَ ذلك بحديث ابن شهاب الزُّهري، عن نبهان مولى أمِّ سلمة ♦ أنَّها قالت: كنت أنا وميمونة جالستين عند رسول الله صلعم ، فاستأذن عليه ابن أمِّ مكتوم، فقال: ((احتجبا منه)) فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا، فقال: ((أفعمياوان أنتما ألستُما تُبصرانه))، أخرجه الأربعة، وقال التِّرمذي: حديث حسنٌ صحيحٌ، وكذا صحَّحه ابن حبَّان، فإن قيل: فما وجه ردِّ حديث نبهان وهو حديثٌ صحَّحه الأئمة بإسنادٍ قوي؟
          فالجواب: أنَّه قال ابن بطَّال: حديث عائشة ♦ يعني: حديثَ الباب أصحُّ من حديث نبهان؛ لأنَّ نبهان ليس بمعروفٍ بنقل العلم، ولا يروي إلَّا حديثين، هذا، والمكاتب إذا كان معه ما يؤدِّي احتجبتْ عنه سيِّدتُه، فلا يقوم حديث نبهان لمعارضةِ الأحاديث الثابتة، وقيل: قد عُرِفَ نبهانُ بنقلِ العلم عند جماعة منهم: ابن حبَّان والحاكم إذ صحَّحا حديثه، وأبو علي الطُّوسي إذ حسَّنه، وروى عنه ابن شهاب ومحمَّد بن عبد الرَّحمن مولى طلحة، وذكره ابن حبَّان في «الثقات» وأكثر ما عُلِّلَ به انفرادُ الزُّهري بالرِّواية عن نبهان، وليست بعلَّة قادحة، فإنَّ من يَعْرِفُه الزُّهري ويصفه بأنَّه مكاتب أمُّ سلمة ولم يُجَرِّحْهُ أحدٌ لا تُرَدُّ روايتُه على أنَّه يَنْفَرِدُ بالرِّوايةِ عنه، وأمَّا المعارضة فلا نسلمُ ذلك لجواز أن عائشة ♦ كانت إذ ذاك صغيرةً، فلا حرجَ عليها في النَّظر إليهم، أو كان قبل الحجاب، أجاب بذلك النَّووي، وقوَّاه بقوله في هذه الرِّواية: فانظروا قدرَ الجارية الحديثة السِّن، لكن عُورض ذلك بأنَّ في بعض طُرقه أنَّ ذلك بعد قدوم وفد الحبشة، وأنَّ قدومَهم كان سنة سبع، ولعائشة ♦ يؤمئذٍ ست عشرة سنة، فكانت بالغة وكان ذلك بعد الحجاب، ويمكن أن يقال: إنَّه رُخِّصَ في الأعياد ما لا يُرَخَّصُ في غيرها، أو يقال: / إنَّ زوجاتِه صلعم قد خُصِصن بما لم يخصصن به غيرهنَّ لعظم حرمتهنَّ، أو يقال: إنَّ الحبشة كانوا صبياناً لَيْسُو ببالغين، والأوجه أن يقال في الجمع بين الحديثين: إنَّه يحتمل تقدُّم الواقعة، أو أن يكون في قصَّة الحديث الذي ذكره نبهان شيء يمنع النِّساء من رؤيته لكون ابن أمُّ مكتوم أعمى، فلعلَّه كان منه شيء ينكشفُ ولا يشعر به، ويؤيِّد قول من يقول بالجواز استمرار العمل على جواز خروج النِّساء إلى المساجدِ والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهنَّ الرِّجال، ولم يؤمر الرِّجال قط بالانتقابِ لئلا يراهم النِّساء، فدلَّ على مُغايرة الحكم بين الفريقين، وبهذا احتجَّ الإمام الغزالي للجواز فقال: لسنا نقول: إنَّ وجهَ الرَّجل في حقِّها عورة كوجه المرأة في حقِّه، بل هو كوجه الأمردِ في حقِّ الرَّجل فيحرم النَّظر عند خوف الفتنة فقط، وإن لم يكن فتنة فلا؛ إذ لم يزل الرِّجال على ممرِّ الزَّمان مكشوفي الوجوه، والنِّساء يخرجنَ منتقباتٍ، فلو استووا لأُمِرَ الرِّجالُ بالتَّنقب أو مُنِعْنَ من الخروج. انتهى، وقال النَّووي: نظر الوجه والكفين عند أمن الفتنة من المرأة إلى الرَّجل، وعكسه جائز، وإن كان مكروهاً لقوله تعالى في الثَّانية: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] وهو مفسَّر بالوجه والكفين، وقيس بها الأولى، وهذا ما في «الرَّوضة» عن أكثر الأصحاب، والذي صحَّحه في «المنهاج» التَّحريم، وعليه الفتوى، وأمَّا نظر عائشة ♦ إلى الحبشة وهم يلعبون فليس فيه أنَّها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم، وإنَّما نظرت إلى لَعِبهِم وحِرَابهم، ولا يَلْزَمُ منه تعمُّد النَّظر إلى البدن، وإن وقعَ بلا قَصْدٍ صَرَفَتْه.