نجاح القاري لصحيح البخاري

باب حق إجابة الوليمة والدعوة

          ░71▒ (باب حَقِّ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ) وفي نسخة / سقط لفظ: <حق>، وقد مرَّ أنَّ الوليمةَ طعامُ العُرس والإِمْلَاك وقيل: طعامُ العرس خاصة. وقال أبو عمر: أجمعوا على وجوب الإتيان إلى الوليمة في العُرس، واختلفوا فيما سوى ذلك (وَالدَّعْوَةِ) بفتح الدال على المشهور، وضَمَّها قطرب في «مثلثته»، وغلَّطوه في ذلك، على ما قال النَّووي، وأما بضمها ففي الحرب وبكسرها في النسب، وعكسَ ذلك بنو تيم الرَّباب ففتحوا دال دَعوة النَّسب، وكسروا دال دعوة الطَّعام، وعطف الدَّعوة على الوليمة من عطف العام على الخاص، فقد أشارَ بذلك إلى أنَّ الوليمة مختصَّة بطعامِ العرس، وقد فصَّلنا ذلك فيما قبل في باب الصُّفْرَة للمتزوِّج [خ¦5153].
          (وَمَنْ أَوْلَمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ) عطف على قوله: إجابة الوليمة (وَنَحْوَهُ) أي: نحو السَّبعة. قال الحافظُ العسقلاني: يشير إلى ما أخرجه ابنُ أبي شيبة من طريق حفصة بنت سيرين قالت: ((لما تزوَّج أبي دعا الصَّحابة سبعة أيام، فلمَّا كان يوم الأنصار دعا أُبيَّ بنَ كَعْبٍ وزيدَ بنَ ثابتٍ وغيرَهما فكان أُبيٌّ صائمًا، فلمَّا طَعِمُوا دعا أُبيٌّ وأَثنى)). وأخرجه البيهقيُّ من وجه آخر أتمَّ سِياقًا منه، وأخرجه عبد الرَّزَّاق من وجه آخر إلى حفصة، وقال فيه: ((ثمانية أيام)). وإليه أشار المصنِّف بقوله: ونحوه؛ لأنَّ القصَّةَ واحدةٌ، وهذا وإن لم يذكره المصنِّف ولم يأت فيه بحديث، لكنَّه جنحَ إلى ترجيحهِ لإطلاق الأمر بإجابة الدَّعوة من غير تقييدٍ، فاندرج فيه السبعة، نبَّه على ذلك ابن المنيِّر.
          (وَلَمْ يُوَقِّتِ النَّبِيُّ صلعم يَوْمًا وَلاَ يَوْمَيْنِ) أي: لم يعين النَّبي صلعم للوليمة وقتًا معينًا يختص به الإيجاب أو الاستحباب لا يومًا ولا يومين، وذلك يقتضِي الإطلاق ويمنع التَّحديد. فإن قيل: روى أبو داود والنَّسائيُّ من طريق قتادة، عن عبد الله بن عثمان الثَّقفي، عن رجل أعور من بني ثقيف كان يثني عليه، إن لم يكن اسمه: زهير بن عثمان، فلا أدري ما اسمه، يَقُولُه قتادةُ: إنَّ النَّبي صلعم قال: ((الوليمةُ أوَّل يوم حقٌّ، والثاني معروفٌ، والثالث رياءٌ وسمعةٌ))، فكيف يقول البخاري: ولم يوقت النَّبي صلعم ؟
          فالجواب: أنَّه قال البخاري في «تاريخه»: لا يصحُّ إسناده، ولا يصحُّ لزهير صُحبة، ولما ذكره أبو عمر / تَبِعَ البخاريَّ فقال: في إسناده نظرٌ، يقال: إنَّ حديثَه مرسلٌ وليس له غيره، ولكن قال غيره: هذا حديثٌ صحيحٌ سندُه، حسنٌ متنُه وإذا لم يَعرفه هو فقد عَرَفَه غيرُه. وقال ابن حبَّان في كتاب «الصَّحابة»: له صحبة، وذَكَرَه في جملتهم من غير تردُّد جماعةٌ كثيرةٌ منهم ابنُ أبي خيثمة في «تاريخه الأوسط» وأبو أحمد العسكري، والتِّرمذي في «تاريخه»، وابن السَّكن وأبو قانع وأبو عَمرو الفلَّاس وأبو الفتح الأزدي في كتابه «المخزون»، والبغويان أحمد في «مسنده الكبير» وابن بنته. وقال: لا أعلم لزهير غيرَ هذا، وأبو حاتم الرَّازي وأبو نُعيم وابنُ منده الأصبهانيان ومحمد بن سعد كاتب الواقدي، وذكر غيرُ واحد أنَّ الحسن روى عنه. فإن قيل: دخل بينهما عبد الله بن عثمان. فالجواب: أنَّه لا يضر ذلك؛ لأنَّه معدودٌ أيضًا في جملة الصَّحابة عند أبي موسى المديني. وقال أبو القاسم الدِّمشقي: أدرك النَّبيَّ صلعم واستشهدَ باليرموك.
          فإن قيل: روى النَّسائيُّ، عن الحسن، عن النَّبي صلعم مرسلًا. فالجواب: أنَّه لا يضر ذلك الحديث؛ لأنَّ الحسنَ صاحبُ فتوى، فربما يُسْألُ عن شيءٍ يكون مسندًا، فيذكره بغير سَنَدٍ، وربما ينشطُ فيذكر سندهُ، وهذه عادة أشباهه من أصحاب الفتوى.
          ولئن سُلِّم للبخاري في إرساله، فالاصطلاحُ الحديثيُّ أنَّ المرسلَ إذا جاء نحوُه مسندًا من وَجهٍ آخر قويَ حتى لو عارضَه حديث صحيحٌ لكان الرجوع إليهما أولى، وقد مرَّ أنَّ لِمَتْنِه أصلًا، فلذلك حَكَمُوا على المتن بالحُسْن.
          من ذلك ما رواهُ عبد الله بن مسعود ☺: أنَّ رسول الله صلعم ، قال: ((طعام أوَّل يوم حقُّ، وطعام يوم الثاني سنَّة، وطعام يوم الثالث سمعةٌ، ومن سمَّع سَمَّع الله به)) رواه التِّرمذي وانفردَ به، وقال: لا نعرفه مرفوعًا إلَّا من حديث زياد بن عبد الله، وهو كثيرُ الغرائب والمناكير.
          ومنه ما رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة ☺ قال رسول الله صلعم : / ((الوليمةُ أولُ يوم حقٍّ، والثاني معروفٌ، والثالث رياءٌ وسُمْعَةٌ))، وفي سندهِ عبد الملك بن حصين النَّخعي الواسطي، تَكَلَّم فيه غير واحد.
          ومنه: ما رواه البيهقي من حديث أنس ☺: أنَّ رسول الله صلعم ، قال: ((الوليمة أول يوم حقٌّ، والثاني معروفٌ، والثالث رياءٌ وسمعة)). قال صاحب «التلويح»: سندهُ صحيحٌ.
          فإن قيل: قد قال البيهقي: ليس هذا الحديث بقوي، وفيه بُكير بن خُنيس تكلموا فيه. فالجواب: أثنى عليه جماعةٌ منهم أحمدُ بن صالح العجلي، قال: كوفي ثقة. وقال البرقي عن يحيى بن معين: لا بأس به. وخرَّج الحاكم حديثه في «المستدرك».
          وعن ابن عبَّاس ☻ رَفَعَه: ((طَعامٌ في العُرْسِ يومٌ سُنَّةٌ، وطعامُ يومين فَضْلٌ، وطعامُ ثلاثة أيام رياءٌ وسُمْعَةٌ))، أخرجه الطَّبراني بسندٍ ضعيفٍ.
          وهذه الأحاديث وإن كان كلٌّ منها لا يخلو من مقالٍ، فإن مجموعها يدلُّ على أنَّ للحديثِ أصلًا. وقد وقع في رواية أبي داود والدَّارمي في آخر حديث زهير بن عثمان قال قتادة: بلغني عن سعيد بن المسيَّب أنَّه دُعِيَ أوَّل يوم فأجاب، ودُعِيَ ثانيَ يومٍ فأجاب، ودعي ثالث يوم فلم يجبْ، وقال: أهل رياءٍ وسمعةٍ، وكأنَّه بلغه الحديث فعَمِلَ بظاهرهِ إن ثبتَ ذلك عنه، وقد عَمِلَ به الشَّافعية والحنابلة. قال النَّووي: إذا أولم ثلاثًا فالإجابة في اليوم الثالث مكروهة، وفي الثاني لا يجبُ قطعًا، ولا يكون استحبُابها فيه كاستحبابِها في اليومِ الأول.
          وقد حكى صاحب «التعجيز» في وجوبها في اليوم الثاني وجهين، وقال في «شرحه»: أصحهمَا الوجوب، وبه قطعَ الجُرْجاني لوصفهِ بأنه معروف أو سنة، واعتبرَ الحنابلة الوجوبَ في اليوم الأول، وأمَّا الثاني: فقالوا: سنة، تمسكًا بظاهر لفظ حديث ابن مسعود ☺ وفيه بَحْثٌ.
          وأمَّا الكراهة في اليوم الثالث فأَطْلَقَهُ بعضُهم لِظَاهِر الخبر. وقال العمراني: إنما يُكره إذا كان المدعو في الثَّالث هو المدعو في الأول. وكذا /
          صوَّره الرُّوياني، واستبعدَه بعضُ المتأخرين وليس ببعيدٍ؛ لأنَّ إطلاق كونه رياء يشعر بأنَّ ذلك صنع للمباهاة، وإذا كَثُرَ النَّاس فدعا في كلِّ يوم فرقةً لم يكن في ذلك مباهاة غالبًا.
          وإلى ما جنحَ إليه البخاري ذهب المالكيَّة. قال القاضي عياض: استحبَّ أصحابنا لأهل السَّعة كونها أسبوعًا، قال: وقال بعضُهم: محلُّه إذا دعا في كلِّ يوم من لم يدع قبله ولم يكرِّر عليهم، وهذا شبيه بما تقدَّم عن الرُّوياني وإذا حملنا الأمر في كراهة الثالث على ما إذا كان هناك رياء وسمعة ومباهاة كان الرابع وما بعده كذلك، فيمكن حمل ما وقع من السَّلف من الزِّيادة على اليومين على الأمن من ذلك، وإنما أطلقَ ذلك على الثالث لكونه الغالب.
          وروى ابن عمر ☻ وغيره عن النَّبي صلعم : ((إذا دُعي أحدكُم إلى الوليمة فليُجِبْ)) ولم يخص ثلاثة أيَّام ولا غيرها، وهذا أصحُّ. وقد أخرج النَّسائيُّ حديثَ أنس ☺: ((أنَّ رسول الله صلعم أقام على صفيَّة ثلاثة أيام حين أعرسَ بها)).
          وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو يعلى، بسندٍ حسنٍ، عن أنس ☺، قال: ((تزوَّج النَّبي صلعم صفيَّة وجعل عتقَها صَدَاقها وجعلَ الوليمة ثلاثةَ أيام))، والله تعالى أعلم.