نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله جل وعز: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة }

          ░34▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ ╡: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ} [البقرة:235]) التَّعريض والتَّلويح: إيهامُ المقصود بما لم يُوضَع له حقيقةً ولا مجازًا، كقول السَّائل: جئتُك لأسلِّم عليك. والكناية: هي الدَّلالة على الشَّيء بِذِكْرِ لَوَازِمه ورَوَادِفه، كقولك: طويل النَّجاد وكثير الرَّماد لطويل القامة والمضياف.
          ({مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}) والخطبة بالكسر وبالضم: اسم الحالة غير أنَّ المضمومة خُصَّت بالموعظة، والمكسورة بطلبِ المرأة، والمراد بالنِّساء المعتدَّات للوفاةِ وتعريضِ خطبتها أن يقول لها: أنت جميلة، أو نافعة ومن غرضِي أن أتزوَّج ونحو ذلك.
          ({أَو أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ}) أي: أضمرتم في قلوبكُم فلم تذكروه صريحًا ولا تعريضًا ({عَلِمَ اللَّهُ} الآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ حَلِيمٌ}) هكذا هو في رواية الأكثرين، وحذف ما بعد {أو أكننتم} في رواية أبي ذرٍّ. ووقع في ((شرح ابن بطَّال)) سياق الآية والتي بعدها إلى قوله: ({أَجَلَهُ}) الآية. وقال ابنُ التين: تضمَّنت الآية أربعة أحكام: اثنان مباحان: التَّعريض والأكنان، واثنان ممنوعان: النكاح في العدة والمواعدة فيها.
          ({أَكْنَنْتُمْ}) وفي رواية أبي ذرٍّ: <{أو أكننتم}> (أَضْمَرْتُمْ) من الإكنان وهو الإضمار في النفس، وأشار بقوله: (وَكُلُّ شَيْءٍ صُنْتَهُ فَهْوَ مَكْنُونٌ) إلى أنَّ ثلاثي أكننتُم كَنَّ يُكِنُّ فهو مَكْنون؛ أي: مستورٌ ومحفوظٌ، والتَّفسير المذكور لأبي عبيدة.
          وقال ابنُ الأثير: أكننتُه أَكُنُّه كَنًّا، والاسم الكَنُّ؛ يعني: المصدر بالفتح والاسم / بالكسر، وقد نفى الله الجناحَ في التَّعريض في خطبة النِّساء وهنَّ في العدة، وذكر أولًا التَّعريض بقوله: ({وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235]) وسيجيءُ معنى التَّعريض والفرق بينه وبين الكناية تفصيلًا إن شاء الله تعالى.
          ({عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} [البقرة:235]) يعني: لا تصبرون عن النُّطق برغبتكُم فيهنَّ وفيه نوع توبيخٍ، ثمَّ قال: ({وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة:235]) فيه حذف تقديره: فاذكروهنَّ ولكن لا تواعدوهنَّ سرًا، وهو كناية عن النِّكاح الذي هو الوطء (1)، ثمَّ عبر بالسرِّ عن النِّكاح الذي هو العقد بقوله: ({إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} [البقرة:235]) وهو أن تعرِّضوا ولا تصرِّحوا، ثمَّ قال: ({وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة:235]) أي: لا تقصدوها ({حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة:235]) يعني: ما كتب وفرض من العدة.


[1] في هامش الأصل: أي لا يصف أحدكم نفسه بأنه كثير الجماع.