نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد؟

          ░29▒ (باب هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لأَحَدٍ) من الرجال؛ أي: فيحل له نكاحها بذلك، وصورته أن يقعَ العقدُ بلفظ الهبة بأن تقولَ المرأة: وهبتُ نفسي لك، والرَّجل يقول: قبلتُ، ولم يذكر المهر، فإنَّ جماعة ذهبوا إلى بطلان النِّكاح؛ يعني: لا ينعقد النِّكاح بهذا، وبه قال الشَّافعي وهو قولُ المغيرة وابن دينار وأبي ثور، وقال أبو حنيفة وأصحابه والنَّووي: ينعقدُ به العقد ولها صداقُ المثل، وكذا ينعقدُ بلفظ الصَّدقة، وبلفظ البيع بدون لفظ النِّكاح أو التَّزويج، فإنَّه يصحُّ، وعند الشَّافعي: لا يصحُّ إلَّا بهذين اللَّفظين.
          وقال الحافظُ العسقلاني: هذا يتناول صورتين: إحداهما: مجرَّد الهبة من غير ذِكْرِ مهرٍ. والثاني: العقد بلفظ الهبة، فالصُّورةُ الأُولى ذهبَ الجمهورُ إلى بطلان النِّكاح، وأجازه الحنفيَّة والأوزاعي، ولكن قالوا: يجبُ مهر المثل، وقال الأوزاعيُّ: إن تزوَّج بلفظ الهبة وشرط أن لا مهرَ لم يصح النِّكاح، وحجَّة الجمهور قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] فعدُّوا ذلك من خصائصِ النَّبي صلعم ، وأنَّه يتزوَّج بلفظ الهبة بغير مهرٍ في الحال والمآل.
          وأجابَ المجيزون عن ذلك: أنَّ الواهبة تختصُّ به لا مطلق الهبة. انتهى. /
          وتفصيلُ دليلهم أنهم قالوا: يجبُ مهر المثل لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50] عطفًا على المُحَلَّلَات في قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50]. وقوله صلعم : ((ملَّكتُكها بما معك من القرآن)). قالوا: لا يقال الانعقاد بلفظ الهبة خاصٌّ به صلعم بدليل قوله: {خَالِصَةً لَكَ} لأنَّا نقول: الاختصاص والخلوص في سقوط المهرِ بدليل أنَّها مقابلة بمن أُوتي مَهرها في قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] إلى قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} [الأحزاب:50] بدليل قوله تعالى: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:50].
          والحرج بلزوم المهرِ دون لفظ التَّزويج، فصارَ الحاصل: أحللنَا لك الأزواج المؤتى مُهورهنَّ والتي وهبتْ نفسها لك فلم تأخذْ مَهرها خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين أمَّا هُم فقد عَلِمْنَا ما فرضنا عليهم في أزواجهم هذا.
          ثمَّ قال الحافظُ العسقلاني: والصُّورة الثانية ذهب الشَّافعية وطائفة إلى أن النِّكاح لا يصحُّ إلَّا بلفظ النِّكاح أو التَّزويج؛ لأنهما الصَّريحان اللَّذان وردَ بهما القرآن والحديث. انتهى.
          أي: فلا ينعقدُ بلفظ البيع والتَّمليك والهبة لحديث مسلم: ((اتَّقوا الله في النِّساء فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانةِ الله واستحللتُم فروجهنَّ بكلمةِ الله)).
          ولأنَّ النِّكاح ينزع إلى العبادات لورودِ النَّدب فيه والأركان في العبادات تُتَلَقَّى من الشَّرع، والشَّرع إنما ورد بلفظ التَّزويج والإنكاح، وذهبَ الحنفيَّة ومن حَذَا حَذْوَهم إلى أنَّه يصحُّ بالكناياتِ أيضًا، واحتجَّ الطَّحَّاوي لهم بالقياس على الطَّلاق، فإنَّه يجوز بصرائحهِ وبكناياتهِ مع القَصْد.
          وأجابوا عمَّا استدلَّ به الشَّافعية بأنَّه لا حجَّة في قوله صلعم : ((استحللتُم فروجهنَّ بكلمةِ الله)).
          فقد قال ابنُ الحاجب في ((الأمالي)): على هذا لو كان المرادُ لفظ التَّزويج ولفظ الإنكاح لكان الوَجْهُ أن يقال: بكَلِمَتَي الله؛ إذ لا يُطلق المفرد على اثنين إلَّا / فيما كان معلومًا بالعادة كقولهم: أبصرتُه بعيني وسمعتُه بأذني، وأمَّا نحو اشتريتُه بدرهم، والمرادُ بدرهمين فلا قائل به.
          ولو سَلمَ صحَّةُ إطلاق المفرد هنا على الاثنين لامتنعَ أيضًا من جهة أنَّه إذا كان المرادُ اللَّفظَ، فاللَّفظُ الموجودُ في القرآن إنما هو {فانْكِحُوهُنَّ} [النساء:25] و{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:49] و{زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] فقد علم أنَّه إذا أخبر عن الكلمة باعتبار أنَّه (1) إنما يراد صورتها ولفظها مجرَّدًا عن معناها، أو مع معناها، وقد عُلِمَ أنَّه لا يقع الإنكاح بهذه الألفاظ على صُورها لا بمجرَّدها ولا بمعناها المراد بها.
          ولو سُلِّم أنَّ الإنكاح يقعُ بهما فليس في اللَّفظ ما يشعرُ أنَّه لا استحلال إلَّا بذلك، ولو سُلِّم أنَّ في اللَّفظ ما يُشعر بالحصرِ فعندنا ما يأباهُ، وهو أنَّه قد ذُكِرَ لفظُ المراجعة مُعَبَّرًا به عن التَّزويج، قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة:230] والمعنى فإن طلَّقها الزَّوج الأول ثلاثًا، فلا جناح على الزَّوج الأوَّل وعلى الزَّوجة المطلقة من هذا الثَّاني أن يتراجعا فقد عبر بالمراجعة عن التَّزويج، والمراد أن يتناكحَا، وذلك يأبى الحصر المذكور.
          وأمَّا حديث أنَّه صلعم زوَّج امرأة فقال: ((ملَّكتكها بما معكَ من القرآن)) فقد قيل: إنَّه وهم من الرَّاوي، وبتقدير صحَّته معارض برواية الجمهور: ((زوجتكها)). قال البيهقيُّ: والجماعة أولى بالحفظ من الواحد، ويحتمل أنَّه صلعم جَمَعَ بين اللَّفظين، والله تعالى أعلم.


[1] في هامش الأصل: في نسخة: بعباراته.