نجاح القاري لصحيح البخاري

باب إذا كان الولي هو الخاطب

          ░37▒ (باب إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ) في النِّكاح (هُوَ الْخَاطِبَ) كابن العمِّ؛ أي: هل يزوِّج نفسه، أو يحتاج إلى ولي آخر. قال ابنُ المنيِّر: ذكر في الترجمة ما يدلُّ على الجوازِ والمنع معًا لِيَكِلَ الأمرَ في ذلك إلى نَظَرِ المجتهد، كذا قال، وكأنَّه أخذَ من تركه الجزم بالحكم، لكن الذي يظهرُ من صنيعهِ أنَّه يرى الجوازَ، فإنَّ الآثار التي فيها أمر الولي غيره أن يزوِّجه ليس فيها التَّصريح بالمنع من تزويجهِ نفسه.
          وقد أوردَ في التَّرجمة أثرَ عطاء الدَّال على الجواز وإن كان الأولى عنده أن لا يتولَّى أحد طرفي النِّكاح. وقد اختلف السَّلف في ذلك؛ فقال الأوزاعي، وربيعة، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أصحابه، واللَّيث: يزوج الولي نفسه ووافقهم أبو ثور. وعن مالك: لو قالت الثَّيبُ لوليها: زوِّجني بمن رأيت فزوَّجها من نفسه أو ممَّن اختار، لَزِمَها ذلك، ولو لم تَعْلَم / عَيْنَ الزَّوْج.
          وقال الشَّافعي: يزوجهما السُّلطانُ أو وليٌّ آخر مثله، أو أقعدَ منه، ووافقه زُفَرُ وداود، وإن أراد القاضي تزويجها زوَّجه قاض آخر بمحلِّ ولايته إذا كانت المرأة في عَمَلهِ أو يستخلفُ من يزوِّجه إذا كان له الاستخلاف، وحجَّتهم أنَّ الولايةَ شرطٌ في العقد، فلا يكون الناكح مُنْكِحًا كما لا يبيعُ من نفسه.
          (وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) أي: ابن مسعود بن مُعَتِّب من ولد عوف بن ثقيف (امْرَأَةً) هي: ابنةُ عمِّه عروة بن مسعود (هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا) أي: في ولاية النِّكاح (فَأَمَرَ رَجُلًا) هو: عثمانُ بن أبي العاص (فَزَوَّجَهُ) وهذا الأثرُ وَصَلَه وكيع في ((مصنفه)) والبيهقيُّ من طريقه عن الثَّوري، عن عبد الملك بن عُمير: أنَّ المغيرة بن شعبة أرادَ أن يتزوَّج امرأةً هو وليها، فجعل أمرهَا إلى رجلٍ، والمغيرة أولى منه فزوَّجه.
          وأخرجه عبد الرَّزاق عن الثَّوري وقال فيه: فأمر أبعد منه فزوَّجه، وأخرجَه سعيدُ بن منصور من طريق الشَّعبي ولفظه: أنَّ المغيرةَ خطبَ بنت عمِّه عروة بن مسعود فأرسل إلى عبد الله بن أبي عقيل فقال: زوِّجنيها، فقال: ما كنتُ لأفعل أنت أمير البلد وابن عمِّها، فأرسل المغيرة إلى عثمان بن أبي العاص فزوَّجها منه. انتهى.
          وقد أوضحَ فيه اسم الرَّجل المبهم في الأثر المذكور، وعبد الله بن أبي عقيل ابن عمِّها أيضًا؛ لأنَّ جدَّه هو مسعود المذكور، وأمَّا عثمان بن أبي العاص فهو وإن كان ثقفيًا أيضًا لكنَّه لا يجتمعُ معهم إلَّا في جدِّهم الأَعلى ثقيفٍ؛ فإنَّه من ولد جُشْم بن ثقيف.
          (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لأُمِّ حَكِيمٍ) بفتح الحاء المهملة (بِنْتِ قَارِظٍ) بالقاف والألف وبراء مكسورة فظاء معجمة، هو: ابنُ خالد بن عبيد، حليف بني زهرة (أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إِلَيَّ) بتشديد الياء (قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: قَدْ تَزَوَّجْتُكِ) وصله ابنُ سعد من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، أنَّ أمَّ حكيم بنت قارظ قالت لعبد بن الرَّحمن بن عوف: إنَّه قد خَطبني غير واحدٍ فزوِّجني أيهم رأيت، قال: وتجعلين ذلك إلي؟ فقالت: نعم قال: قد تزوَّجتك، قال ابنُ أبي ذئب: فجاز نكاحه. وقال الكرمانيُّ: وإدخالُ البخاريِّ هذه الصُّورةَ في هذه الترجمة مُشْعِرٌ بأنَّ عبد الرَّحمن كان وليها بوجهٍ / من وجوه الولايات. انتهى.
          ثمَّ قوله: أتجعلين أمرك إليَّ، تفويضٌ منها وهو الوكالة، ولا يفهم منه إلَّا أنَّه وكيل، ولا يفهمُ منه أنَّه وليها، غاية ما في الباب أنَّه يفهم منه جواز هذا الحكم ليس إلَّا.
          وقد ذكر ابنُ سعد أمَّ حكيم في النِّساء اللَّواتي لم يدركنَ النَّبي صلعم ، وروين عن أزواجهِ، ولم يزد في التَّعريف بها على ما في هذا الخبر، وذكرها في تسميةِ أزواج عبد الرَّحمن بن عوف في ترجمته، فقال: أم حكيم بنت قارظ بن خالد بن عبيد حليف بني زهرة.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) وهو: ابنُ أبي رباح (لِيُشْهِدْ) بالتحتية، والجزم على الأمر (أَنِّي نَكَحْتُكِ، أَوْ لِيَأْمُرْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهَا) وصله عبد الرَّزَّاق عن ابن جُريج، قال: قلتُ لعطاء: امرأة خطبها ابنُ عمٍّ لها لا رجلَ لها غيره، قال: فليشهدْ أنَّ فلانًا خَطَبَها وإنِّي أشهدكُم أني قد نكحتُها أو ليأمر رجلًا من عشيرتها. وقال الكِرمانيُّ: قوله: عشيرتها؛ يعني: يفوِّض الأمر إلى الولي الأبعد، أو يحكم رجلًا من أقربائها، أو يكتفِي بالإشهاد، وللمجتهدين في مثله مذاهب وليس قول بعضِهم حجَّة على الآخر. انتهى.
          وقوله في الوجه الأول ليس من معنى قول عطاء، وليس يناسب معناه إلَّا الإشهاد أو التَّحكيم.
          (وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صلعم : أَهَبُ لَكَ نَفْسِي، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ) بالمثناة الفوقية (لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا) وهذا طرف من حديث الواهبة، وقد مضى موصولًا في باب ((تزويج المعسر)) [خ¦5087]، وفي باب ((النَّظرِ إلى المرأةِ قَبْلَ التزويج)) وغيرهما [خ¦5126]، وقد وصله في هذا الباب أيضًا بلفظ آخر.
          ووجه دخوله في هذا الباب من حيث إنَّ النَّبي صلعم لما طلب الرجل وقال له ما قال، ثم زوجها منه كأنَّه خطبَها له، والحال أنَّه وليُّها؛ لأنَّه صلعم وليُّ كلِّ من لا ولي له.