نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: هل يرجع إذا رأى منكرًا في الدعوة؟

          ░76▒ (باب هَلْ يَرْجِعُ) أي: المدعو (إِذَا رَأَى مُنْكَرًا) أي: شيئًا منكرًا (فِي الدَّعْوَةِ) أي: في مجلس الدَّعوة كفرش الحرير في دعوة اتُّخِذَتْ للرجال، وفرش جلود نمر بقيَ وبرُها، كما قاله الحليمي وغيره، وإنما ذكره بالاستفهام لمكان الخلاف فيه ولم يشر في الباب إلى ذلك، وإنَّما المذكور في الباب أنَّه إذا رأى منكرًا يرجع (وَرَأَى ابْنُ مَسْعُودٍ) هو: عقبة بن عَمرو الأنصاري.
          (صُورَةً فِي الْبَيْتِ فَرَجَعَ) ووقع في رواية المُستملي والأَصيلي والقابسي وعَبْدُوس بن مسعود / أعني عبد الله ☺. قال الحافظُ العسقلاني: وهو تصحيفٌ فيما أظنُّ فإني لم أر الأثر المعلَّق إلَّا عن أبي مسعود عقبة بن عَمرو أخرجه البيهقيُّ من طريق عدي بن ثابت، عن خالد بن سعد، عن أبي مسعود: ((أنَّ رجلًا صنعَ طعامًا فدعاه، فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم، فأبى أن يدخلَ حتى يكسر الصُّورة)). وسنده صحيحٌ.
          وخالد بن سعد هو مولى أبي مسعود عقبة بن عَمرو، ولا أعرف له عن عبد الله بن مسعود رواية، ويحتمل أن يكون وقع ذلك لعبدِ الله بن مسعود أيضًا لكن لم أقف عليه، وممَّا يَقْضِي منه العَجَبُ أنَّ العينيَّ تعقَّبه، وقال: إنَّ بعض الظَّن إثم، ولا يلزم من عدم رؤيته الأثر المذكور إلَّا عن أبي مسعود أن لا يكون أيضًا لعبد الله بن مسعود مع أنَّ هذا القائل قال: يحتمل أن يكون ذلك وقع لعبد الله بن مسعود، فإذا كان الاحتمال موجودًا كيف يحكم بالتَّصحيف بالظَّن. انتهى، وذلك لأنَّ ذلك القائل لم يحكم جزمًا بأنَّه تصحيفٌ بل نسب كونه تصحيفًا إلى ظنِّه، وأين هذا من ذاك، فافهم.
          (وَدَعَا ابْنُ عُمَرَ) ☻ (أَبَا أَيُّوبَ) ☺ (فَرَأَى فِي الْبَيْتِ سِتْرًا عَلَى الْجِدَارِ) فأنكر على عبد الله بن عمر (فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ : (غَلَبَنَا) بفتح الموحدة، جملة من الفعل والمفعول (عَلَيْهِ) أي: على وضع الستر على الجدار (النِّسَاءُ) بالرفع فاعله (فَقَالَ) أي: أبو أيوب ☺ (مَنْ كُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهِ فَلَمْ أَكُنْ أَخْشَى عَلَيْكَ) أي: إن كنت أخشى على أحدٍ يعملُ في بيته مثل هذا المنكر ما كنت أخشى عليك ذلك (وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُ لَكُمْ) وفي نسخة: <لك> (طَعَامًا، فَرَجَعَ) وهذا الأثر المُعَلَّق وَصَلَه أحمدُ في كتاب «الورع»، ومسدد في مسندهِ، ومن طريقه الطَّبراني من رواية عبد الرَّحمن بن إسحاق، عن الزُّهري، / عن سالم بن عبد الله بن عمر، قال: أعرستُ في عهد أبي، فآذنَ أبي النَّاسَ، وكان أبو أيوب فيمن آذنَّا، وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر، فأقبل أبو أيُّوب فاطَّلع فرآه، فقال: يا عبد الله، أتسترون الجُدُر، فقال أبي، واستحيا: غَلَبنا عليه النِّساء يا أبا أيوب، فقال: من خشيت أن يغلبَه النِّساء، فذكره. والبِجَاد، بكسر الموحَّدة وتخفيف الجيم: الكساء.
          قال الحافظُ العسقلاني: ووقع لنا من وَجْهٍ آخر من طريق اللَّيث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سالم بمعناه، وفيه: فأقبل أصحابُ النَّبي صلعم يدخلون الأوَّل فالأوَّل حتى أقبلَ أبو أيُّوب ☺، وفيه: فقال عبدُ الله: أقسمتُ عليك لَتَرْجِعَنَّ، فقال: وأنا أعزم على نفسي أن لا أدخل يومي هذا ثمَّ انصرفَ.
          ووقع نحو ذلك لابنِ عمر ☻ فيما بعد فأنكرَهُ وأزالَ ما أنكرَ ولم يرجع، كما صنعَ أبو أيوب ☺، فروِّينا في كتاب «الزهد» لأحمد من طريق عبد الله بن عتبة، قال: دخلَ ابنُ عمر بيتَ رَجُلٍ دعاه إلى عرسٍ، فإذا بيته قد سُتِرَ بالكُرُورِ، فقال ابنُ عمر: يا فلان، متى تحوَّلت الكعبة في بيتك؟ ثمَّ قال لنفرٍ معه من أصحاب محمد صلعم : ليهتكَ كلُّ رجلٍ ما يليه. وأخرجَ ابنُ وهب، ومن طريقه البيهقيُّ أن عُبيدَ الله بنَ عبد الله بن عمر دُعِيَ لعرس فرأى البيت قد سُتِرَ فرجع فسُئِلَ، فذكر قصة أبي أيوب ☺.
          وقد اختُلِفَ في ستر البيوت والجدر فجزمَ جمهورُ الشَّافعية بالكراهة، ويشهدُ له أثرُ ابنِ عمر ☻ هذا، ولو كان حرامًا ما قَعَدَ الذين قَعَدُوا من الصَّحابة، ولا فعله ابن عمر ☻ ، فيحملُ فِعْلُ أَبي أيِّوب ☺ على كراهةِ التَّنزيه جَمْعًا بين الفعلين، ويحتمل أن يكون أبو أيوب كان يرى التَّحريم والذين قَعَدُوا ولم يُنْكِروا / يرون الإباحة.
          وقد صرَّح الشيخ أبو نصر المقدسي من الشَّافعية بالتَّحريم لحديث مسلم عن عائشة ♦: أنَّ النَّبي صلعم لم يأمرنا أن نكسوا الحجارةَ والطِّين وجَذَبَ السِّتر حتى هَتَكَهُ. قال البيهقي: هذه اللَّفظة تدل على كراهة ستر الجدار، وإن كان في بعض ألفاظ الحديث أنَّ المنع كان بسبب الصُّورة.
          وتُعُقِّبَ بأنَّه ليس في السياق ما يدلُّ على التَّحريم، وإنَّما فيه نفي الأمر بذلك ونفي الأمر لا يستلزم ثبوت النَّهي، لكن يُمْكِنُ أن يُحْتَجَّ بفعله صلعم في هتكه، وجاء النَّهي صريحًا عن ستر الجدار عند أبي داود من حديث ابن عبَّاس ☻ : ((ولا تستروا الجُدُر بالثِّياب)). وفي إسناده ضَعْفٌ. وله شاهد مرسلٌ عن علي بن الحسين، أخرجه ابن وهب، ثمَّ البيهقيُّ من طريقه، وعند سعيد بن منصور من حديث سلمان ☺ موقوفًا أنَّه أنكر ستر البيت، وقال: ((أمحمومٌ بيتكم أو تحوَّلت الكعبة عندكم))، ثمَّ قال: ((لا أدخل حتى يهتك)).
          وأخرج الحاكمُ والبيهقيُّ من حديث محمد بن كعب، عن عبد الله بن يزيد الخطمي: أنَّه رأى بيتًا مستورًا فقعدَ وبكى، وذكر حديثًا عن النَّبي صلعم فيه: ((كيف بكم إذا سترتُم بيوتكُم)) الحديث، وأصله في النَّسائي.
          ومطابقة الأثر للترجمة ظاهرةٌ.