نجاح القاري لصحيح البخاري

باب النظر إلى المرأة قبل التزويج

          ░35▒ (بابُ النَّظَرِ) أي: جواز النَّظر أو استحبابه (إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ) قال العيني: وكان ينبغي أن يقالَ قبل التَّزوج؛ لأنَّ النَّظر فيه لا في التَّزويج، والظَّاهر أنَّ هذا من النَّاسخ. انتهى، وفيه تَأْمُّلٌ. استنبط البخاري جوازَ ذلك من حديثَي الباب لكون الصَّريح الوارد فيه ليس على شرطهِ. وقد وردَ في ذلك أحاديث أصحها حديث أبي هريرة ☺ قال رجل: إنَّه تزوج امرأة من الأنصار فقال رسول الله صلعم : ((أَنَظَرْتَ إليها)) قال: لا، قال: ((فاذهبْ فانظر إليها، فإنَّ في أعين الأنصار شيئًا))، أخرجه مسلم والنَّسائي، / وفي لفظ له صحيح: أنَّ رجلًا أراد أن يتزوَّج امرأة. فذكره.
          قال الغزاليُّ في ((الإحياء)): اختلف في المراد بقوله: شيئًا: فقيل: عمشٌ، وقيل: صِغر.
          قال الحافظُ العسقلاني: الثاني وقع في رواية أبي عَوَانة في ((مستخرجه)) فهو المعتمدُ، وهذا الرجل يحتمل أن يكون المغيرة، فقد أخرج التِّرمذي والنَّسائي من حديثه: أنَّه خطبَ امرأة، فقال له النَّبي صلعم : ((انظر إليها فإنَّه أحرى أن يؤدمَ بينكما)) أي: يدوم بينكما المودة والأُلفة، وصحَّحه ابن حبَّان. انتهى.
          والظَّاهر أنَّه غيره، وسيجيء ما يؤيِّده. وقيل: ينبغي أن يكون ذلك بعد العزم وقبل الخطبة؛ لحديث أبي داود والحاكم من حديث جابر ☺ مرفوعًا: ((إذا خطبَ أحدكُم المرأة فإن استطاعَ أن ينظرَ إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعلْ)) وسنده حسنٌ. وله شاهدٌ من حديث محمد بن مسلمة، صحَّحه ابن حبَّان والحاكم.
          وأخرجه أحمدُ وابن ماجه، ومن حديث أبي حُميد أخرجه أحمدُ والبزَّار، وسيجيءُ كلاهما، وإنما اعتبر ذلك قبل الخطبة؛ لأنَّه لو كان بعد لربما أعرض عنها فيؤذيها.
          وقال ابنُ عبد السَّلام: استحباب النَّظر لمن يرجو رجاء ظاهرًا أنَّه يجاب إلى خطبتهِ دون غيره.
          واعلم أنَّه اختلف فيه العلماء فقال طاوس والزُّهري والحسن البصري والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشَّافعي ومالك وأحمد وآخرون: يباحُ النَّظر إلى المرأة التي يريدُ نكاحها. وقال القاضي عياض: قال الأوزاعي: ينظرُ إليها ويجتهدُ وينظر مواضع اللَّحم منها. وقال الشَّافعي وأحمد: وسواء بإذنها أو بغيرِ إذنها إذا كانت مستترة. وحكى بعضُ المشايخ تأويلًا على قول مالك: أنَّه لا ينظرُ إليها إلَّا بإذنها؛ لأنَّه حق لها، ولا يجوز عند هؤلاء المذكورين أن يَنْظُرَ إلى عَوْرَتِها ولا وهي حَاسِرةٌ.
          وقيل: إنَّ المنظورَ غيرُ العورة المقرَّرة في شروط الصَّلاة فينظر الرجل من الحرَّة الوجه والكفين؛ لأنَّ الوجه يدلُّ على الجمال، والكفين على خصبِ البدن، وينظرُ من الأمة ما عدا ما بين السرَّة والرُّكبة. وعن داود: ينظرُ إلى جميعها حتى قال ابنُ حزم: يجوزُ النَّظر إلى فرجها، وقال العلماء: لا ينظر إليها نظر تلذُّذٍ وشهوةٍ ولا لزينة. وقال أحمد: ينظرُ إلى الوجه على غير طريق لذَّة وله أن يردِّد النَّظر إليها متأملًا محاسنها.
          وقال الحافظُ العسقلاني: وعن أحمد ثلاث روايات؛ الأولى: كالجمهور، والثانية: ينظرُ إلى ما يظهر غالبًا، والثالثة: ينظرُ إليها متجرِّدة، وإذا لم يمكنه النَّظر استحب أن يبعثَ امرأة يثقُ بها تنظرُ إليها وتخبره، لما روى البيهقيُّ من حديث ثابت عن أنس ☺: أنَّ النَّبي صلعم أرادَ أن يتزوَّج امرأة فبعثَ امرأة (1) لتنظر إليها فقال: ((شُمِّي عَوَارضَها، وانظُرِي إلى عُرْقوبها)) الحديث.
          قال البيهقيُّ: كذا رواه شيخنا في ((المستدرك))، / ورواه أبو داود في ((المراسيل)) مختصرًا. والعوارضُ: الأسنان التي في عرضِ الفم، وهي ما بين الثَّنايا والأضراس واحدها عارضٌ، وذلك لاختبار النَّكهة، فإن لم تعجبْه سكتَ ولا يقول: لا أريدُها لأنَّه إيذاء.
          وقالت طائفةٌ: منهم يونس بن عُبيد وإسماعيل بن عُليَّة وقوم من أهل الحديث: لا يجوزُ النَّظر إلى الأجنبيَّة مطلقًا إلَّا لزوجها أو ذي رحمٍ محرمٍ منها، واحتجُّوا في ذلك بحديث عليٍّ ☺: أنَّ رسول الله صلعم ، قال: ((يا عليٌّ إنَّ لك في الجنَّة كنزًا، وإنَّك ذو قرنيها فلا تتبعِ النَّظرة النَّظرة فإنَّ لك الأولى)) رواه الطَّحَّاوي والبزَّار.
          ومعنى: ((لا تُتْبع النَّظرة النَّظرة)) أي: لا تجعل نظرتَك إلى الأجنبيَّة تابعة لنظرتكَ الأولى التي تقعُ بغتةً وليست لك النَّظرة الآخرة؛ لأنَّها تكون عن قصدٍ واختيارٍ فتأثم بها وتعاقب، وبما رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله، قال: ((سألت رسول الله صلعم عن نظر الفجأةِ، فأمرني أن أصرفَ بصري))، قالوا: فلمَّا كانت النَّظرة الثانية حرامًا؛ لأنَّها عن اختيار، خُولف بين حكمها وحكم ما قبلها، إذ كانت بغير اختيارٍ، دلَّ ذلك على أنَّه ليس لأحدٍ أن ينظرَ إلى وجه امرأةٍ إلَّا أن يكون بينها وبينه من النِّكاح أو الحرمة.
          واحتجَّت الطَّائفة الأولى بحديث محمد بن مسلمة: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((إذا أَلْقَى اللهُ في قَلْبِ امرئٍ خطبة امرأةٍ فلا بأس أن ينظرَ إليها)) رواه الطَّحَّاوي وابن ماجه والبيهقيُّ. وبحديث أبي حميد السَّاعدي، وقد كان رأى النَّبي صلعم ، قال: قال رسول الله صلعم : ((إذا خطبَ أحدكُم امرأةً فلا جناح عليه أن ينظرَ إليها إذا كان إنما ينظرُ إليها للخطبة وإن كانت لا تعلمُ)) رواه الطَّحَّاوي وأحمد والبزَّار. وبحديث جابر ☺، قال: قال رسول الله صلعم : ((إذا خطبَ أحدكُم المرأةَ / فقدر على أن يَرى منها ما يعجبُه فليفعلْ)) رواه الطَّحَّاوي وأبو داود. وبحديث أبي هريرة ☺: أنَّ رجلًا أراد أن يتزوَّجَ امرأةً من الأنصار، فقال له النَّبي صلعم : ((انظرْ إليها فإنَّ في أعينِ نساءِ الأنصار شيئًا)) يعني: الصغر، رواه الطَّحاوي. وأخرجه مسلم، وليس في روايته ((يعني الصغر)) كما تقدَّم.
          وبحديث المغيرة بن شعبة ☺: أنَّه أراد أن يتزوَّجَ امرأة، فقال له النَّبي صلعم : ((انظرْ إليها فإنَّه أحرى أن يؤدمَ بينكما)). وأخرجه الطَّحَّاوي والتِّرمذي وقال: حديث حسنٌ. وقال: معنى قوله: ((أن يؤدمَ بينكما)) أحرى أن تدومَ المودة بينكما. وأجابوا عن حديث عليٍّ ☺: بأنَّ النَّظر فيه لغير الخطبة، فذلك حرامٌ، وأمَّا إذا كان للخطبة فلا يمنع منه؛ لأنَّه للحاجة. ألا ترى كيف جوز به في الإشهاد عليها ولها، فكذلك النَّظر للخطبة، والله تعالى أعلم.


[1] في هامش الأصل: هي أم سليم.