نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من قال: لا نكاح إلَّا بولي

          ░36▒ (باب مَنْ قَالَ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ) هذا لفظُ حديثٍ رواه أبو داود والتِّرمذي وابن ماجه، وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم من حديث أبي موسى الأشعري ☺. وإنَّما ترجم بهذا ولم يخرِّجه لكونه ليس على شرطهِ، وكذلك لم يخرجه مسلم.
          وقال التِّرمذي بعد أن ذكر الاختلاف فيه: وإنَّ من جملة مَنْ وَصَلَه إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، ومن جملةِ من أرسله شعبة وسفيان الثَّوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بُردة ليس فيه أبو موسى. ورواية مَن رواه موصولًا أصحُّ؛ لأنَّهم سمعوه في أوقات مختلفةٍ، وشعبة وسفيان وإن كانا أحفظ وأثبتَ من جميع من رواه عن أبي إسحاق، لكنَّهما سمعاهُ في وقتٍ واحدٍ.
          ثمَّ ساق من طريق أبي داود الطَّيالسي عن شعبة، قال: سمعتُ سفيان الثَّوري يسألُ أبا إسحاق سمعتُ أبا بردة يقول: قال رسول الله صلعم : ((لا نكاح إلَّا بولي)) قال: نعم. وإسرائيل أثبتُ في أبي إسحاق ثمَّ ساق من طريق ابن مهدي، قال: ما فاتني الَّذي فاتني من حديث الثَّوريِّ عن أبي إسحاق، وإلَّا لما اتَّكلت به على إسرائيل لأنَّه كان يأتي به أتم.
          وأخرج ابنُ عدي عن عبد الرَّحمن بن مهدي، قال: إسرائيل في أبي إسحاق أثبتُ من شعبة وسفيان. وأسند الحاكمُ من طريق / عليِّ بن المديني ومن طريق البخاريِّ والذُّهلي وغيرهم أنهم صحَّحوا حديث إسرائيل، ومن تأمَّل ما ذُكِرَ عَرَفَ أنَّ الذين صحَّحوا وَصْلَه لم يستندوا في ذلك إلى كونه زيادة ثقةٍ فقط، بل للقرائنِ المذكورةِ المقتضيةِ لِتَرجيحِ روايةِ إسرائيل الذي وَصَلَه على غيره.
          ثمَّ إنَّه لما كان ميل البخاري إلى قول من قال: ((لا نكاح إلَّا بولي)) استنبطَ البخاري هذا الحكم من الآيات والأحاديث التي ساقها لكون الحديث الوارد بلفظ الترجمة على غير شرطهِ، فاحتجَّ بثلاث آياتٍ، ذكر هنا من كلِّ آيةٍ قطعة، فقال:
          (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}) وفي بعض النُّسخ اقتصرَ على قوله: ({فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}) وحذف ما قبله، وجه الاستدلال به أنَّ الله تعالى نهى الأولياء عن عضلهنَّ؛ أي: منعهنَّ من التَّزويج فلو كان العقد إليهنَّ لم يكنَّ ممنوعات. وقال الشَّافعي: إنَّ هذه الآيةَ أصرحُ دليل على اعتبار الولي وإلَّا لما كان لعضلهِ معنى.
          وفي ((المعرفة)) للبيهقي: إنَّما يُؤْمَرُ بأن لا يعضلَ من له سببٌ إلى العضْلِ بأن يكونَ يَتِمُّ به له نكاحُهَا من الأولياء، قال: وهذا أبْيَنُ ما في القرآن من أنَّ للولي مع المرأة في نفسها حقًّا، وأنَّ على الولي أن لا يعْضِلَها إذا رضيتْ أن تنكحَ بالمعروف. انتهى.
          إلَّا أنَّه لا يتم الاستدلال بها؛ لأنَّ ظاهر الآية أنَّ الخطاب للأزواج الذين يطلِّقون نساءَهم ثمَّ يعضلونهنَّ بعد انقضاء العدَّة تأثمًا ولحميَّة الجاهلية لا يتركونهنَّ يتزوَّجنَ من شئنَ من الأزواج.
          فإن قيل: هذه الآية نزلتْ في قصَّة مَعْقل بن يسار على ما رواه البخاري، كما يأتي عن قريبٍ [خ¦5130]، ورواه أبو داود والتِّرمذي والنَّسائي في ((الكبرى)) من رواية الحسن، عن مَعْقل بن يسار، قال: كانت لي أخت تُخْطَبُ فأمنعها. الحديث وفيه: فأنزل الله تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة:232] فقال: من قال: لا نكاح إلَّا بولي، أمر الله تعالى بترك عضلهنَّ، فدلَّ ذلك أنَّ إليهم عقد نكاحهنَّ.
          فالجواب: أنَّ هذا الحديث روي من وجوه كثيرةٍ مختلفةٍ، وكذلك ذكرت وجوه في سبب نزول هذه الآية، فمنهم من قال: الخطاب فيه للأولياء، ومنهم من قال: الخطاب للأزواج الذين طلَّقوا نساءهم، ومنهم من قال: الخطابُ لسائر الناس، فعلى هذا لا يتمُّ به الاستدلال، وأيضًا يحتمل أن يكون عضلُ معقل بن يسار لأجلِ تزهيدِهِ وترغيبهِ أخته في المراجعة فتقفُ عند ذلك فأُمِرَ بِتَرْكِ ذلك.
          وقال أبو بكر ابن الجصَّاص بعد أن روى حديث معقل من رواية سماك، عن ابن أخي / معقل بن يسار: إنَّ هذا الحديث غيرُ ثابت على مذهبِ أهل النَّقل؛ لأنَّ في سنده رجلًا مجهولًا، وأمَّا حديث الحسن البصري فمرسلٌ، وأمَّا الآية فالظَّاهر أنَّها خطاب للأزواج كما تقدَّم.
          (فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ) أي: فدخل في قوله ╡: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة:232] الثَّيب والبكر لعموم النِّساء، وفي بعض النُّسخ: <قال أبو عبد الله: فدخلت فيه الثيب والبكر> وأبو عبد الله هو البخاري نفسه، وثبت هذا في رواية الكُشْمِيْهَني، وعليه شرح ابن بطَّال.
          (وَقَالَ) تعالى: ({وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221]) وجه الاستدلال به أن الله تعالى خاطب الأولياء ونهاهم عن إنكاحِ المشركين مولياتهم المسلمات، قيل: وفيه أنَّ الآية منسوخة بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] والخطاب أعمُّ من أن يكون للأولياءِ وغيرهم، فلا يتمُّ الاستدلالُ به، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المنسوخ بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ} إلى آخره هو قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] لا قوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221]. نعم الخطاب يعمُّ الأولياء وغيرهم، فافهم.
          (وَقَالَ) ╡: ({وَانْكِحُوا الأَيَامَى} [النور:32]) جمع أيم ({مِنْكُمْ} [البقرة:232]) وجه الاستدلالِ به أنَّه تعالى خَاطَب الرِّجال ولم يخاطبِ النِّساء فلا تعقد امرأة نكاحًا لنفسها ولا لغيرها بولايةٍ ولا وكالةٍ؛ إذ لا يليقُ بمحاسنِ العادات دخولها فيه لما قُصِدَ مِنْهَا من الحَيَاءِ وعَدَمِ ذِكْرِها أصْلًا.
          وقال العينيُّ: لا وجه للاستدلالِ به لمن قال: ((لا نكاح إلَّا بولي)) لأنَّ المفسِّرين قالوا: معناه: أيُّها المؤمنون زوجوا من لا زوجَ له من أحرارِ رجالكم ونسائكُم والصَّالحين من عبادكُم وإمائكُم ومَنْ كان فيه صلاح من غلمانكُم وجواريكُم.
          والأيامى: جمع أَيِّم، وهو أعمُّ من المرأة؛ لتناوله الرَّجل، فلا يصحُّ أن يرادَ بالمخاطبين الأولياء وإلَّا كان للرجل ولي. وما قاله الكِرمانيُّ خرج الرجل منه بالإجماع فبقي الحُكْمُ في المرأةِ بحاله فهذه دَعوى تحتاجُ إلى البرهان.
          نعم في حديث ابن ماجه المرفوع: ((لا تزوِّج المرأةُ المرأةَ، ولا المرأةُ نفسها)) أخرجه الدَّارقطني بإسناد على شرط الشَّيخين لكنَّه لا يقاوِمُ عمومَ الآية حتى ينسخَ عمومها، وقد تقدَّم أنَّ البخاريَّ ☼ استنبطَ الحكم المذكور من الآيات والأحاديث الآتية لكون الحديث الوارد بلفظ الترجمة / ليس على شرطه.
          قالت الشَّافعية: فلو وَطِئَ في نكاحٍ بلا ولي بأن زوَّجت نفسها ولم يحكم حاكمٌ بصحَّته ولا ببطلانِهِ لزمه مهرُ المثل دون المسمَّى لفسادِ النِّكاح لحديث التِّرمذي وقد حسَّنه وابن حبَّان والحاكم وصحَّحاه: ((أيما امرأةٍ نكحتْ بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطلٌ ثلاثًا، فإن دخلَ بها فلها المهرُ بما استحلَّ من فرجها)) الحديث، ويسقط عنه الحدُّ لشبهة اختلاف العلماءِ في صحَّته، نعم يعزَّر معتقدُ تحريمه لارتكابهِ محرَّمًا، ولا حدَّ فيه ولا كفَّارة.
          وقال أبو حنيفة: لو زوَّجت نفسها وهي حرَّة عاقلة بالغة أو وكلت غيرها أو توكَّلت به جازَ بلا ولي، وكان أبو يوسف أولًا يقول: لا ينعقدُ إلَّا بولي إذا كان لها ولي، ثمَّ رجع وقال: إن كان الزَّوج، كفؤًا لها جازَ وإلَّا فلا، ثمَّ رجع وقال: جازَ سواء كان الزَّوج كفؤًا لها أو لم يكن، وعند محمد: ينعقدُ موقوفًا على إجازة الولي سواء كان الزَّوج كفؤًا لها أو لم يكن، ويُرْوَى رجوعُه إلى قولهما، واستدلَّ لذلك بقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [البقرة:234] وقوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] وقوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] فهذه الآيات تصرِّح بأنَّ النِّكاح ينعقدُ بعبارة النِّساء؛ لأنَّ النِّكاح المذكورَ منسوبٌ إلى المرأة في قوله: أن تنكح، وحتى ينكحن، وكذا قوله: {فِيمَا فَعَلْنَ} [البقرة:234] و{أن يتراجعا} [البقرة:230] صريح بأنَّها هي التي تفعل، وهي التي ترجع، ومن قال: لا ينعقدُ بعبارة النِّساء فقد ردَّ النَّص. وقوله صلعم : ((الأيمُّ أحقُّ بنفسها من وليِّها)) متَّفق على صِحَّته، واستدْلَالُهم بالنَّهي عن العضلِ لا يَسْتقيمُ؛ لأنَّه نهيٌ عن المَنْعِ عن مُبَاشَرَتِها العَقد، فليس له أن يمنعَها عن المباشرة بعد ما نهى عنه.
          وقد قال البخاريُّ: لم يصح في باب النِّكاح حديث دلَّ على اشتراط الولي وجوازهِ، ولئن سُلِّمَ يكون محمولًا على الأمة والصَّغيرة. انتهى.