التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر

          ░71▒ بَابٌ لاَ يَجُوزُ الوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ، وَلاَ الْمُسْكِرِ.
          قال البُخاريُّ: (وَكَرِهَهُ الحَسَنُ وَأَبُو العَالِيَةِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: التَّيَمُّمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ).
          أمَّا أَثَرُ الحسنِ فرواهُ عبدُ الرَّزَّاقِ في «مصنَّفِه» عن الثَّوريِّ عن إسماعيلَ بن مسلم _يعني المكِّيَّ_ عن الحسَنِ قال: لا تَوضَّأْ بِلَبَنٍ ولا نَبِيذٍ.
          وأمَّا أثَرُ أبي العاليةِ _وهو رُفيعُ بن مِهْرانَ_ فرواهُ ابنُ أبي شَيبَةَ عن مروانَ بنِ معاويةَ عن أبي خَلْدة عنه أنَّه كَرِهَ أن يغتسلَ بالنَّبيذِ. ورواه الدَّارَقُطْنيُّ في «سُنَنِه» بإسنادٍ جيِّدٍ عن أبي خَلْدَةَ قلتُ لأبي العالية: رَجُلٌ ليس عنده ماءٌ وعندَه نبيذٌ أَيَغتَسِلُ به مِن الجنابة؟ قال: لا. فَذَكَرْتُ له ليلةَ الجنِّ فقال: أَنْبِذَتُكُم هذه الخبيثةُ، إنَّما كانَ زَبِيبًا. وذَكَرَ أبو جعفرَ الرَّازيُّ عن الرَّبيعِ بن أنسٍ عن أبي العاليةِ قال: رَكِبْتُ البَحْرَ مع أصحابِ رسولِ الله صلعم فَفَنِيَ ماؤهُم فَكَرِهُوا الوُضوءَ مِن ماءِ البحْرِ فتوضَّؤوا بالنَّبيذِ.
          وحكاهُ ابنُ حَزْمٍ عن بعضِهِم ولمْ يُسمِّه، قال: وهو مخالفٌ لِفِعْلِ أصحابِهم لأنَّهم لا يُجيزونَ الوُضوءَ بالنَّبيذِ ما دام يوجَدُ ماءُ البَحْرِ. وقال الدَّاوُدِيُّ في «شرْحِه» في قولِ الحسَنِ وأبي العاليةِ: لو ذَكَرَا آيةَ التَّيَمُّمِ قالا بالتَّحريمِ، وما كان حرامًا فهُوَ نَجِسٌ.
          و(عَطَاءٌ) السَّالِفُ هو ابنُ أبي رَبَاحٍ، صرَّح به ابنُ حَزْمٍ حيثُ قال: لا يجوزُ الوُضوءُ بغيرِ الماءِ، وهذا قولُ مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ وداودَ وغيرِهم، وقال به الحسَنُ وعطاءُ بنُ أبي رباحٍ والثَّوريُّ وأبو يوسُفَ وإسحاقُ وأبو ثورٍ وغيرُهم.
          وعن أبي حنيفةَ ثلاثُ رواياتٍ حكاها عنه الرَّازيُّ في «أحكامه» قال: وأشهَرُها يَتَوَضَّأُ به ويُشتَرَطُ فيه النِّيَّةُ ولا يتيمَّمُ، قال قاضي خان: هي قولُه الأَوَّلُ، وبها قال زُفَرُ. والثَّانيةُ: يتيمَّمُ ولا يَتَوَضَّأُ، رواها عنه جماعةٌ، قال قاضي خان: وهي الصَّحيحَةُ عنه وقولُه الآخَر والَّذي رجَع إليها، وبها قال أبو يوسُفَ وأكثَرُ العلماءِ واختيارُ الطَّحاويِّ. والثَّالِثَةُ: رُوِيَ عنه الجمعُ بينهُما وهذا قولُ محمَّدٍ، فقيل استحبابًا، وقيل وجوبًا. وعنه روايةٌ رابعةٌ في جوازِهِ بالمطبوخِ منه في السَّفَرِ إذا عَدِمَ فيه الماءَ.
          وعن الأوزاعيِّ الوُضوءُ بكلِّ نبيذٍ. وحَكَى التِّرمِذِيُّ عن سفيانَ الوُضوءَ بالنَّبيذِ. ونَقَلَ ابنُ بطَّالٍ إجماعَ العلماءِ على أنَّه لا يُتَوَضَّأُ به مع وجودِ الماءِ لأنَّه ليسَ بماءٍ، قال: فلمَّا كانَ خارِجًا مِن حُكْمِ المياه في حالِ وُجودِ الماءِ كان خارجًا مِن حكمِها في حالِ عَدَمِه، وقد سَلَفَ عن ابنِ حَزْمٍ ذلكَ أيضًا.
          واستُدِلَّ للرِّوايةِ الأُولَى بحديثِ أبي فَزَارَةَ عن أبي زيد عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ قال: سألَني النَّبيُّ صلعم ليلةَ الجِنِّ: ((مَا في إِدَوَاتِكَ؟)) قلتُ: نَبِيذٌ، قال: ((ثَمَرةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ)). وفي لفظٍ: ((فَتَوَضَّأَ بِهِ وَصَلَّى الفَجْرَ)) رواه أبو داودَ والتِّرمِذِيُّ وابنُ ماجه، قال التِّرمِذِيُّ: إنَّما رُوِيَ عن أبي زيدٍ عن عبدِ الله مرفوعًا، وأبو زيدٍ رجُلٌ مجهولٌ لا تُعرَفُ له روايةٌ غيرَ هذا الحديثِ. هذا كلامُهُ. وقد أُعِلَّ بوجوهٍ:
          أحدُها: جهالةُ أبي زيدٍ هذا، وتشكَّك شريكٌ فيه حيثُ قال: أبو زيدٍ أو زيدٌ، قال ابنُ أبي حاتِمٍ في «عِلَلِه»: سمعتُ أبا زُرْعَة يقولُ: أبو زَيْدٍ رجُلٌ مجهولٌ، وذَكَرَ ذلك ابنُ عَدِيٍّ عن البُخاريِّ وزادَ لا يُعرَفُ بصُحْبَةِ ابنِ مسعودٍ، وكذا نصَّ على جهالَتِه غيرُ واحِدٍ وإنْ قال ابنُ العَرَبيِّ: إنَّه عمرُو بنُ حُرَيث وعنه راشِدُ بنُ كَيسان وأبو رَوْق.
          وأمَّا أبو فَزَارَةَ الرَّاوي عنه فهو راشِدُ بنُ كَيْسَان، رَوَى عنه جماعةٌ وهو ثِقَةٌ، وقيل إنَّهما اثنانِ وراوِي هذا الحديثِ مجهولٌ ليس هو ابنُ كيسان، قال أحمد: أبو فَزَارَةَ في هذا الحديثِ رَجُلٌ مجهولٌ. وذَكَرَ البُخاريُّ أبا فزَارَةَ العَبْسِيَّ راشِدَ بن كيسان وأبا فَزَارَةَ العَبْسِيَّ غيرَ مُسَمَّى فجعَلَهُما اثنين.
          ورواهُ عن عبدِ الله جماعاتٌ غير أبي زيد مُتكلَّمٌّ في أكثَرِهِم. ولقد أنصَفَ الطَّحاويُّ الذَّابُّ عنهم فقال في أوَّلِ كتابَه: إنَّما ذَهَبَ أبو حنيفةَ ومحمَّدٌ إلى الوُضوءِ بالنَّبيذِ اعتمادًا على حديثِ ابنِ مسعودٍ، ولا أصلَ له ولا معنى لتطويلِ كتابي بِشَيْءٍ فيه.
          الثَّاني: أنَّ عبدَ الله ما شَهِدَ ليلةَ الجِنِّ كما جاء في «صحيحِ مسلمٍ» / مِن قولِ عَلقَمة عنه، وإنْ كان شَهِدَ أوَّلَها واستوقفَهُ وبَعُدَ عنه ثُمَّ عادَ إليه.
          الثَّالِثُ: أنَّه منسوخٌ على تقديرِ صحَّتِه لأنَّه كان بمكَّةَ ونُزُولُ آيةِ التيمُّمِ بالمدينةِ، وفيه نَظَرٌ.
          الرَّابِعُ: أنَّه مخالفٌ للأصولِ فلا يُحتَجُّ به عندَهم.
          الخامسُ: أنَّهُم شَرَطُوا لِصِحَّة الوُضوءِ به السَّفَرَ، والشَّارِعُ إنَّما كان في شِعَابِ مكَّةَ، كما ثَبَتَ في «صحيح مسلمٍ».
          السَّادِسُ: أنَّ المرادَ بالنَّبيذِ ماءٌ نُبَذَتْ فيه تَمَرَاتٌ لِيَعذُبَ ولمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا، وقدْ وصفَهُ صلعم بأنَّه طَهُورٌ، ثُمَّ هذا إذا لم يشتَدَّ ولم يُسكِرْ، فإنِ اشتدَّ حَرُمَ شُرْبُه، فكيْفَ الوُضوءُ به؟ كما صرَّح به في «المبسوط» عندَهم، فإنْ كان مطبوخًا فالصَّحيحُ عندَهم أنَّه لا يُتَوضَّأُ به.
          وقال صاحبُ «المفيد»: إذا أُلقِيَ فيه تمراتٌ فحَلَا ولم يَزُلْ عنه اسمُ الماءِ وهو رَقيقٌ يجوزُ الوُضوءُ به بلا خلافٍ بينَ أصحابِنا ولا يجوزُ الاغتسالُ به خلاف ما في «المبسوط» مِن جوازِه، ووجْهُ الأوَّلِ أنَّ الجنابةَ أغلظُ الحدَثَينِ، والضَّرورَةُ فيه دونَ الوُضوءِ فلا يُقاسُ عليه. وقال الكرخيُّ: المطبوخُ أدنَى طبْخَةٍ يجوزُ الوُضوءُ به حُلوًا كان أو مُسْكِرًا إلَّا عندَ محمَّدٍ في الْمُسكِرِ. وقال أبو طاهرٍ الدَّبَّاسُ: لا يجوزُ، وصحَّحهُ في «المحيطِ» كمَرَقِ الباقِلَّاءِ.