التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن

          ░4▒ بَابُ لاَ يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ
          137- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ. فَقَال: (لاَ يَنْفَتِلْ _أَوْ لاَ يَنْصَرِفْ_ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا).
          الكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه البخاريُّ هنا كما ترى، وأخرجه قريبًا في باب مَنْ لم يرَ الوضوء إلَّا مِنَ المخْرَجَين القُبل والدُّبر، عن أبي الوليد عن سُفيان به، وقال: ((لا يَنْصَرِفْ حتَّى يَسْمَعَ صَوتًا أو يَجِدَ رِيحًا))، وأخرجه في البيوع: عن أبي نُعَيمٍ عن ابن عُيَينة عن الزُّهريِّ به.
          وأخرجه مسلمٌ هنا عن عمرٍو النَّاقد وغيره عن ابن عُيَينة به.
          ثانيها: في التَّعريف برواته:
          أمَّا عمُّ عُبَاد فهو عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب بن عمرو بن عوف بن مَبْذول بن عَمرو بن غَنْم بن مازن بن النَّجَّار الأنصاريُّ المازنيُّ، مِنْ بني مازن بن النَّجَّار المدنيُّ.
          له ولأبويه صحبةٌ، ولأخيه حبيب بن زيدٍ الذي قطَّعه مسيلمةُ عضوًا عضوًا، فقُضِي أنَّ عبد الله هو الذي شارك وحشيًّا في قتل مُسَيلمة، وهو راوي هذا الحديث، وحديث صلاة الاستسقاء أيضًا الآتي في بابه، وغيرهما مِنَ الأحاديث كما ستعلمه [خ¦1005].
          ووهِم ابن عيينة فزعم أنه الذي أُرِيَ الأذان أيضًا، وهو عجيبٌ فإنَّ ذاك عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه بن ثعلبة بن زيدٍ الأنصاريُّ، فكلاهما اتَّفقا في الاسم واسم الأب والقبيلة وافترقا في الجدِّ والبطن مِنَ القبيلة، فالأوَّل مازنيٌّ، والثَّاني حارثيٌّ، وكلاهما أنصاريَّان خزرجيَّان فيدخلان في نوع المتَّفِقِ والمفتَرِق.
          وممَّن غلَّط ابنَ عُيَينة في ذلك البخاريُّ في «صحيحه» في باب الاستسقاء. كما ستعلمه هناك إن شاء الله تعالى وقدَّره [خ¦1005].
          ثمَّ عبد الله صاحب التَّرجمة له ثمانيةٌ وأربعون حديثًا، اتَّفقا على ثمانيةٍ منها، وذاك اشتهر له حديثٌ واحدٌ، وهو حديث الأذان، حتَّى قال البخاريُّ فيما نقله التِّرمذيُّ عنه: لا نعرف له غيرُه. لكِنَّا ظفرنا له بحديثٍ ثانٍ وثالثٍ، وذكرتهما في تخريجي لأحاديث الرَّافعيِّ.
          قُتِلَ صاحب التَّرجمة في ذي الحجَّة بالحرَّة عن سبعين سنةً، وكانت الحرَّة في آخر سنة ثلاثٍ وستِّين، وهو أُحُدِيٌّ، وقال ابن مَنْدَه وأبو أحمد الحاكم وأبو عبد الله صاحب «المستدرك»: إنَّه بَدْريٌّ، وهو وَهْم.
          فائدةٌ: ليس في الصَّحابة مَنِ اسمه عبد الله بن زيد بن عاصمٍ سوى هذا، وفيهم أربعةٌ أُخر اسم كلٍّ منهم عبد الله بن زيدٍ، منهم صاحب الأذان.
          فائدةٌ أخرى: عبد الله بن زيدٍ هذا هو عمُّ عبَّادٍ مِنْ قِبَل أمِّه، وقيل: مِنْ قِبَل أبيه فتنبَّه له.
          وأمَّا عبَّاد بن تميم بن غَزِيَّةٍ فهو أنصاريٌّ مازنيٌّ مدنيٌّ ثقةٌ. قال: أعِي يوم الخندق وأنا ابن خمس سنين، فينبغي إذن أن يُعَدَّ في الصَّحابة، وليس فيهم مَنْ يُسَمَّى عبَّاد بن تميمٍ سواه إذن، وقد عدَّه الذَّهبيُّ فيهم، ووقع في بعض نسخ ابن ماجه رواية عبَّادٍ عن أبيه عن عمِّه حديث الاستسقاء، وتبعها ابن عساكرٍ، والصَّواب عن عبد الله بن أبي بكرٍ / قال: سمعت عبَّاد بن تميمٍ يحدِّث أبي عن عمِّه الحديث.
          فائدةٌ: (عبَّادِ) بفتح أوَّله وتشديد ثانيه، ويشتبه بِعُبَادٍ، بضمِّ أوَّله وتخفيف ثانيه، وهو والد قيسٍ وغيره، وبِعِبَادٍ _بكسر أوَّله وفتح ثانيه_ وبعِيَاذٍ وبعيَّادٍ وبعَنَادٍ، والكلُّ موضَّحٌ في «مشتبه النِّسبة» تأليفي. انتهى.
          وأمَّا سعيد بن المسيِّب والزُّهريُّ فسلف التَّعريف بهما، وليس في الكتب السِّتَّةِ مَنِ اسمه سعيد بن المسيِّب سوى هذا الإمام، بل ولا يحضرني في غيرها أيضًا.
          وسفيان هو ابن عُيينة سلف، وكذا عليُّ بن المدينيِّ.
          فائدةٌ: هذا الإسناد كلُّهم مِنْ رجال الكتب السِّتَّةِ، إلَّا عليَّ بن المدينيِّ فإنَّه مِنْ رجال البخاريِّ وأبي داود والتِّرمذيِّ والنَّسائيِّ فقط، وجميع رجاله مدنيُّون، خلا ابن المدينيِّ، فإنَّه بصرِيٌّ، وخلا سفيان فإنَّه مكِّيُّ.
          الوجه الثالث: قول البخاريِّ: عن الزُّهريِّ عن سعيد بن المسيِّب وعن عبَّاد بن تميمٍ عن عمِّه، يعني به أنَّ الزُّهريِّ رواه عنهما جميعًا، أعني: سعيد بن المسيِّب، وعبَّاد بن تميمٍ عن عبد الله بن زيدٍ.
          الوجه الرابع: في ألفاظه وفوائده:
          الأولى: الياء في (شَكَى) منقلبةٌ عن واوٍ لأنَّه مِنْ شكا يشكو، ويجوز أن تكون أصليَّة غير منقلبةٍ في لغة مَنْ قال: شكى يشكي.
          الثانية: هذه الرِّواية ظاهرها أنَّ الشَّاكي عبد الله بن زيدٍ، وضبط النَّوويُّ في «شرح مسلمٍ» رواية مسلمٍ، عن عمِّه: ((شَكَى إلى رَسُولِ اللهِ صلعم الرَّجل يُخَيَّلُ إليه..)) الحديث. فقال: شُكِيَ بضمِّ الشِّين وكسر الكاف، والرَّجل مرفوعٌ، ثمَّ قال: ولم يسمَّ هنا الشَّاكي، وجاء في رواية البخاريِّ أنَّه عبد الله بن زيد الرَّاوي.
          قال: ولا ينبغي أن يُتوهَّم مِنْ هذا أنَّ شكى بفتح الشِّين والكاف، ويُجْعَل الشَّاكي هو عمُّه المذكور، فإنَّ هذا الوهَمَ غلطٌ، هذا لفظه، ولم يظهر لي وجه الغلط في ذلك، فإنَّ العمَّ هو عبد الله بن زيدٍ، وإذا كان هو الشَّاكي فَلِم لا تصحُّ قراءة (شَكَى) بالفتح؟
          الثالثة: الشَّيء المشار إليه هو الحركة التي يُظنُّ بها أنَّها حدَثٌ، وليس كذلك، ولهذا قال صلعم: (حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا)، ومعناه: حتَّى يعلم وجود أحدهما يقينًا، ولا يشترط اجتماع السَّماع والشَّمِّ بالإجماع.
          وفي «صحيحي» ابن خُزَيمة وابن حِبَّان و«مستدرك الحاكم» مِنْ حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ ☺ أنَّ رسول الله صلعم قال: ((إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ أَحْدَثْتَ، فَلْيَقُلْ كذبتَ، إلَّا ما وَجَد رِيحًا بأنفِهِ أو سَمِعَ صوتًا بأُذُنِهِ))، وفي رواية ابن حِبَّان: ((فَلْيَقُلْ فِي نَفْسِهِ: كَذَبْتَ)).
          قال ابن خزيمة: وقوله: ((فليقل كذبتَ))، أراد بضميره لا بالنِّطق.
          قلتُ: رواية ابن حبَّان تؤيِّد ما قاله، وزعم بعض العلماء أنَّه صلعم ذكر الصَّوت لمن حاسَّةُ شمَّه معلولةٌ، والرِّيح لمن حاسَّةُ سمعه معلولةٌ.
          وقد أسلفنا في حديث أبي هريرة السالف في باب لا تُقبل صلاةٌ بغير طُهورٍ، أنَّه يجوز أن يكون أشار به لكونه أنَّه الواقع في الصَّلاة، فإنَّ غيره كالبول مثلًا لا يُعْهَد فيها [خ¦235].
          وفي «مسند أحمد» مِنْ حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ أيضًا: ((إنَّ الشَّيطانَ ليأتي أَحَدكُم وَهُوَ في صَلَاتِهِ فيأخذ شَعْرةً مِنْ دُبُره فيمدَّها فيرى أنَّه أَحْدَثَ، فلا يَنْصَرِفْ حتَّى يَسْمَعَ صوتًا))، وفي إسنادها عليُّ بن زيد بن جُدْعان وحالته معلومةٌ.
          الرابعة: معنى الحديث أنَّه يمضي في صلاته ما لم يتيقَّن الحدث، ولم يُرِد تخصيص هذين النَّوعين مِنَ الحدَث، وإنَّما هو جوابٌ خرَجَ حذو سؤال السَّائل، لا نفي الوضوء إلَّا مِنْ أحدهما، ودخل في معناه كلُّ ما يخرج مِنَ السَّبيلَين مِنْ بولٍ أو غائطٍ أو مَذْيٍّ أو وَدْيٍّ أو دمٍ، وقد يكون بأُذُنِه وَقَرٌ فيُخْرِج الرِّيحَ ولا يَسمعُ له صوتًا، وقد يكون أخشم فلا يجِدُ الرِّيح. والمعنى إذا كان أوسع مِنَ الاسم كان الحكم للمعنى.
          وهذا كما رُوِيَ أنَّه صلعم قال: ((إذا استهلَّ الصَّبِيُّ ورِثَ وصُلِّيَ عليه))، لم يرد تخصيص الاستهلال الذي هو الصَّوت دون غيره مِنْ أَمَارات الحياة مِنْ حركة وقبض وبسط ونحوهما، وهذا أصلٌ في كلِّ ما ثبت يقينًا، فإنَّه لا يُرْفَع بالشَّكِّ.
          الخامسة: قوله: (لَا يَنْفَتِلْ أَوْ لَا يَنْصَرِفْ) الظَّاهر أنَّه شكٌّ مِنَ الرَّاوي. ووقع في كتاب الخطَّابيِّ: ((ولا يَنْصَرِف)) بحذف الهمزة. وقد أسلفنا روايةً أخرى للبخاريِّ: ((لا يَنصرِفْ))، مِنْ غير شكٍّ.
          السادسة: هذا الحديث _كما قدَّمناه_ أصلٌ مِنْ أصول الإسلام، وقاعدةٌ مِنْ قواعد الفقه، وهي أنَّ الأشياء يُحكم ببقائها على أصولها حتَّى يُتيقَّنَ خلاف ذلك، ولا يضرُّ الشَّكُّ الطَّارئ عليها.
          والعلماء متَّفقون على هذه القاعدة، ولكنَّهُم مختلفون في كيفيَّة استعمالها.
          مثاله: مسألة الباب التي دلَّ عليها الحديث، وهي أنَّ مَنْ تيقَّن الطَّهارة، وشكَّ في الحدَث يُحكم ببقائه على الطَّهارة، سواءٌ حصل الشَّكُّ في الصَّلاة أو خارجها، وهو مذهب الشَّافعيِّ وجمهور علماء السَّلف والخلف إعمالًا للأصل السَّابق، وهو الطَّهارة، واطِّراحًا للشَّكِّ الطَّارئ، وأجازوا الصَّلاة في هذه الحالة، وهو ظاهر الحديث.
          وعن مالكٍ ☼ روايتان:
          إحداهما: يلزمه الوضوء مطلقًا، نظرًا إلى الأصل الأوَّلِ قبل الطَّهارة، وهو ترتُّب الصَّلاة في الذِّمَّة، فلا تُزال إلَّا بطهارةٍ متيقَّنةٍ، ولا يقين مع وجود الشَّكِّ في وجود الحدَث.
          والثانية: إن كان شكُّهُ في الصَّلاة لم يلزمه الوضوء، وإن كان خارجها لزمه، وليس هذا وجهًا عندنا، وإن وقع في الرَّافعيِّ و«الرَّوضة» فلا أصل له كما أوضحته في «شرح العمدة» و«شرح المنهاج»، وبعض الشُّرَّاح حكى الأوَّل وجهًا عندنا أيضًا، وهو غريبٌ، وعن مالكٍ روايةٌ ثالثةٌ رواها ابن نافعٍ أنَّه لا وضوء عليه كما قاله الجمهور، حكاها ابن بطَّالٍ عنه.
          ونقل القاضي عياضٌ ثمَّ القرطبيُّ عن ابن حبيبٍ المالكيِّ أنَّ هذا الشَّكَّ في الرَّيح دون غيره مِنَ الأحداث، وكأنَّه تبعَ ظاهر الحديث، واعتذر عنه بعض المالكيَّة بأنَّ الرِّيح لا يتعلَّقُ بالمحلِّ منه شيءٌ بخلاف البول والغائط. وعن بعض أصحاب مالكٍ أنَّه إن كان الشَّكُّ في سببٍ حاضرٍ كما في الحديث طرح الشَّكَّ، وإن كان في سببٍ متقدَّمٍ فلا.
          السابعة: لا فرق في الشَّكِّ عند أصحابنا بين تساوي الاحتمالين في وجود الحدَث وعدمه وبين ترجُّح أحدهما وغلبة الظَّنِّ في أنَّه لا وضوء عليه، فالشَّكُّ عندهم خلاف اليقين، وإن كان خلاف الاصطلاح الأصوليِّ، وقولهم موافقٌ لقول أهل اللَّغة: الشَّكُّ خلاف اليقين.
          نعم، يُستحبُّ الوضوء احتياطًا، فلو بان حدثه أوَّلًا فوجهان:
          أصحُّهما: لا يجزئه هذا الوضوء لتردُّده في نِيَّته، بخلاف ما إذا تيقَّن الحدَث وشكَّ في الطَّهارة فتوضَّأ ثمَّ بان محدثًا، فإنَّه يجزئه قطعًا لأنَّ الأصل بقاء الحدَث، فلا يَضُرُّ التَّردُّدُ معه.
          فرعٌ: لو تيقَّن الحدَث وشكَّ في الطَّهارة فهو محدِثٌ بالإجماع، وهو داخلٌ في القاعدة السَّالفة.
          فرعٌ: لو تيقَّن الطَّهارة والحدث معًا وشكَّ في السَّابق منهما، فأوجهٍ:
          أصحُّها: أنَّه يأخذ بضدِّ ما قبلهما إن عرفه، فإن لم يعرفه لزمه الوضوء بكلِّ حالٍ، والمختار لزوم الوضوء مطلقًا، ومحلُّ بسط المسألة في كتب الفروع، وقد أوضحتها في «شرح المنهاج» وغيره.
          الثامنة: مِنْ مسائل القاعدة التي اشتمل عليها معنى الحديث: مَنْ شكَّ في طلاق زوجته، أو عتق عبده أو نجاسة الماء الطَّاهر أو طهارة المنجَّس، أو نجاسة الثَّوب أو غيره، أو أنَّه صلَّى ثلاثًا أو أربعًا، / أو أنَّه ركع أو سجد أو لا، أو نوى الصَّوم أو الصَّلاة أو الوضوء أو الاعتكاف، وهو في أثناء هذه العبادات، وما أشبه هذه الأمثلة، فكلُّ هذه الشُّكوك لا تأثير لها، والأصل عدم الحادث.
          وقد اسُتثنيَ مِنْ هذه القاعدة بِضْعُ عشرة مسألةٍ:
          منها مَنْ شكَّ في خروج وقت الجمعة قبل الشُّروع فيها، قيل: أو فيها، ومَنْ شكَّ في ترك بعض وضوءٍ أو صلاةٍ بعد الفراغ لا أثر له على الأصحِّ، ومنها عَشْرٌ ذكرهنَّ ابن القاصِّ _بتشديد الصَّاد المهملة_ مِنْ أصحابنا: الشَّكُّ في مدَّة خُفٍّ وأنَّ إمامه مسافرٌ أو وصل وطنه أو نوى إقامة، ومستحاضةٌ شُفيت، وغسل مُتَحيِّرةٍ، وثوبٌ خَفِيت نجاسته، ومسألة الظَّبية، وبطلان التَّيمُّم بتوهُّم الماء، وتحريم صيدٍ جرحه فغاب فوجده ميِّتًا.
          قال القفَّال: لم يعمل بالشَّكِّ في شيءٍ منها، لأنَّ الأصل في الأولى الغسل، وفي الثَّانية الإتمام، وكذا في الثَّالثة والرَّابعة إن أوجبناه، والخامسة والسَّادسة اشتراط الطَّهارة ولو ظنًّا أو استصحابًا، والسَّابعة بقاء النَّجاسة، والثَّامنة لقوَّة الظَّنِّ، والتَّاسعة للشَّكِّ في شرط التَّيمُّم وهو عدم الماء، وفي الصَّيد تحريمه إن قلنا به. وقول ابن القاصِّ أقوى في غير الثَّامنة والتَّاسعة والعاشرة كما قاله النَّوويُّ، وليس هذا موضع بسطه.
          التَّاسعة: فيه حُجَّةٌ كما قال الخطَّابيُّ لمن أوجب الحدَّ على مَنْ وُجِدَت منه رائحة المسكر وإن لم يشاهد شُربه ولا شهد عليه الشُّهود ولا اعترف به.
          العاشرة: فيه مشروعيَّة سؤال العلماء عمَّا يحدث مِنَ الوقائع، وجواب السَّائل.
          الحادية عشرة: فيه أيضًا كما قال الدَّاوديُّ في «شرحه»: ترك الاستحياء في العلم، وأنَّه صلعم كان يعلِّمُهُم كلَّ شيء، وأنَّه يصلِّي بوضوء صلواتٍ ما لم يحدِث.
          ومِنْ تراجم البخاريِّ عليه باب مَنْ لم يرَ الوساوس ونحوها مِنَ الشُّبهات، ووجهه أنَّه نهى عن العمل بمقتضى الوسواس لأنَّ يقين الطَّهارة لا يقاومه الشَّكُّ، ففيه تنبيهٌ على ترك الوسواس في كلِّ حالٍ، وأدخله البيهقيُّ في «معرفته» في باب: عدَّة زوجة المفقود، وقد أسلفنا عن البخاريِّ أنَّه أدخله أيضًا في باب: مَنْ لم يرَ الوضوء إلَّا مِنَ المخرجَين، واعترض عليه الخطَّابيُّ فقال: لا معنى للاستدلال به في ذلك، ولا في نقض تيمُّم المصلِّي، وإن كان قد أُولِع به أهل الجدل مِنْ أصحابنا لأنَّه ليس ممَّا قُصِد بالجواب والسُّؤال، ولا هو واقعٌ تحت الجنس مِنْ معقول الباب.
          قال: وكذلك لا معنى للاستدلال فيه بقوله صلعم: ((لا يَقْطَعُ صَلاةَ المرءِ شَيءٌ)) لأنَّه إنَّما ورد في المارِّ بين يدي المصلِّي، أَلَا تراه قال فيه: ((وَادْرَؤُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ)).
          قلت: ونختم الكلام على الحديث بما رُوِّيَنا عن عبد الرَّحمن بن مالك بن مِغْوَلٍ قال: جاء رجلٌ إلى أبي حنيفة فقال: شربتُ البارحة نبيذًا فلا أدري أطلَّقتُ امرأتي أم لا؟ فقال له: المرأة امرأتك حتَّى تستيقن أنَّكَ طلَّقْتَها.
          قال: فتركه ثمَّ جاء إلى سفيان الثَّوريِّ، فسألَهُ. فقال: اذهب فراجِعْهَا فإن كنتَ قد طلَّقتها فقد راجعتها، وإلَّا فلا تضرُّك المراجعة. فتركه وجاء إلى شَرِيكٍ فقال له: اذهب فطلِّقْهَا ثمَّ راجِعْهَا. فتركه وجاء إلى زُفُر فسأله، فقال: هل سألتَ أحدًا قبلي؟ قال: نعم وقصَّ القِصَّة، فقال في جواب أبي حنيفة: الصَّواب قال لك، وقال في جواب سفيان: ما أحسنَ ما قال، ولَمَّا بلغ إلى قول شريكٍ ضحك مليًّا.
          ثمَّ قال: لأضربنَّ لهم مثلًا: رجلٌ مرَّ بمثعبٍ يسيل دمًا، فشكَّ في ثوبه هل أصابه نجاسةٌ؟ قال له أبو حنيفة: ثوبك طاهرٌ حتَّى تستيقن، وقال سفيان: اغسله فإن كان نجسًا فقد طهَّرتَهُ، وإلَّا فقد زدَّته طهارةً، وقال شريكٌ: بُلْ عليه ثمَّ اغسله.