التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين

          ░34▒ بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ الوُضُوءَ إِلَّا مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ القُبُلِ وَالدُّبُرِ، وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ} [النساء:43].
          قد أسلفْنَا في بابِ لا تُسْتَقْبلُ القِبلةُ بغائطٍ ولا بولٍ أنَّ الغائطَ أصلُه المكانُ المطمئنُّ مِن الأرضِ، كانوا ينتابونَه للحاجَةِ ثُمَّ استُعمِلَ للخارِجِ وغلَبَ على الحقيقةِ الوضْعِيَّةِ فصارَ حقيقةً عُرفِيَّةً، لكن لا يُقْصَدُ به إلَّا الخارِجُ مِن الدُّبُرِ فقطْ، وقد يُقصَدُ به ما يخرُجُ مِن القُبُلِ أيضًا، وقد قام الإجماعُ على إلحاقِه بالغائطِ في النَّقْضِ. والرِّيحُ مُلْحَقٌ بهمَا بالأحاديثِ الصَّحيحةِ، مِنها حديثُ عبدِ الله بنِ زيدٍ: ((حتَّى تَسْمَعَ صَوتًا أو تَجِدَ رِيْحًا)).
          قال ابن المنذرِ: أجمعوا أنَّه ينقُضُ خروجُ الغائطِ مِن الدُّبُرِ، والبولِ مِن القُبُلِ والرِّيحِ مِن الدُّبُرِ، والْمَذْيِ. قال: ودمُ الاستحاضَةِ ينقُضُ في قولِ عامَّةِ العلماءِ الأربعة. قال: واختلفُوا في الدُّودِ يخرُجُ مِن الدُّبُرِ، فكان عطاءُ بنُ أبي رباحٍ والحسَنُ وحمَّادُ بنُ أبي سُليمانَ وأبو مِجْلَزٍ والحكَمُ وسُفيانُ الثَّورِيُّ والأوزاعِيُّ وابنُ المبارَكِ والشَّافِعِيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ يرَوْنَ منه الوُضوءَ. وقال قتادةُ ومالكٌ: لا وُضوءَ فيه. ورُوِيَ ذلك عن النَّخَعِيِّ. وقال مالكٌ: لا وُضوءَ في الدَّمِ يخرُجُ مِن الدُّبُرِ. هذا آخِرُ كلامِه.
          ونقلَ أصحابُنا عن مالكٍ أنَّ النادِرَ لا ينقُضُ، والنَّادِرُ كالْمَذْيِ يدومُ لا بشَهْوةٍ فإنْ كان بها فليسَ بنَادِرٍ، وكذا نقلَهُ ابنُ بطَّالٍ عنه فقال: وعندَ مالكٍ أنَّ ما خرَجَ مِن المخرَجَينِ معتادًا ناقِضٌ، وما خرج نادرًا على وجهِ المرضِ لا ينقُضُ الوُضوءَ كالاستحاضَةِ وسَلَسِ البوْلِ والْمَذْيِ والحَجَرِ والدُّودِ والدَّمِ.
          وقال أبو محمَّدٍ بن حَزْمٍ: الْمَذْيُ والبولُ والغائطُ مِن أيِّ موضعٍ خرجوا مِن الدُّبُرِ والإحليلِ أو المثَانَة أو البطْنِ وغيرِ ذلك مِن الجسَدِ أو مِن الفَمِ ناقضٌ للوضوء لعمومِ أمْرِهِ صلعم بالوُضوءِ منها ولم يخصَّ موضعًا دونَ موضِعٍ، وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابُه، قال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة:6] وقد يكونُ خروجُ الغائطِ والبولِ مِن غيرِ المخرجَينِ. وقال داودُ: لا ينقُضُ النَّادرُ وإنْ دامَ إلَّا المذْيُ للحديثِ، واحتجَّ لِمَن قال: لا ينقُضُ النَّادِرُ بقولِه صلعم: ((لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ)) حديثٌ صحيحٌ صحَّحهُ التِّرمِذِيُّ مِن طريق أبي هُريرةَ، وبحديثِ صفْوانَ بن عَسَّالٍ الصَّحيحِ: ((لَكِنْ مِن غائطٍ وبولٍ ونومٍ)) ولأنَّه نادرٌ فلمْ ينقُضْ كالقَيْءِ وكالْمَذْيِ.
          واحتجَّ أصحابُنا بحديثِ عليٍّ الآتي في البابِ في الْمَذْيِ [خ¦178] وعن ابنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ قالا: في الوَدْيِ الوضوءُ. رواه البخاريُّ. ولأنَّه خارِجٌ مِن السَّبيلِ فنقَضَ كالرِّيحِ والغائطِ ولأنَّه إذا وَجَبَ الوُضوءُ بالمعتادِ الَّذي تعمُّ به البَلْوَى فغيرُه أَوْلَى. والجوابُ عن حديثِ: ((لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ)) أنَّا أجمعْنَا على أنَّه ليس المرادُ به حصْرُ ناقضِ الوضوءِ في ذلك، بل المرادُ نَفْيُ وُجوبُ الوُضوءِ بالشَّكِّ في خروجِ الرِّيحِ.
          وأمَّا حديثُ صفْوانَ فبيَّن فيه جوازَ المسْحِ وبعضَ ما يُمَسُح بسبَبِه، ولمْ يقْصِدْ بيانَ جميعِ النَّواقِضِ، ولهذا لم يستوْفِها، ألا تراهُ لم يذكُرِ الرِّيحَ وزوالَ العقْلِ وهما مما ينقُضُ بالإجماعِ. وأمَّا القَيْءُ فلأنَّه مِن غيرِ السَّبيلِ فلمْ ينقُضْ كالدَّمْعِ. وأمَّا سَلَسُ الْمَذْيِ فلِلضَّرورَةِ ولهذا نقولُ: هو مُحْدِثٌ ولا يَجمَعُ بين فَرْضينِ ولا يَتَوضَّأ قَبْلَ الوقتِ.
          واحتجَّ بعضُ أصحابِنا بحديثِ: ((الوُضُوءُ مِمَّا خَرجَ)) وهو خبرٌ رواهُ البَيْهَقِيُّ عن عليٍّ وابنِ عبَّاسٍ، ورُوِيَ مرفوعًا ولا يثبُتُ. وقال أبو حنيفةَ: لا ينقضُ خروجُ الرِّيح مِن قُبُلِ الرَّجُلِ والمرأَةِ. ووافَقَنَا أحمدُ على النَّقضِ به.
          قال البُخاريُّ: (وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ أَوْ مِنْ ذَكَرِه نَحْوُ الْقَمْلَةِ: يُعِيدُ الْوُضُوءَ).
          هذا أسنَدَهُ ابنُ أبي شَيبةَ في «مصنَّفِه» بإسنادِه الصَّحيحِ فقال: حدَّثَنا حفصُ بنُ غِياثٍ عن ابن جُرَيجٍ عن عطاءٍ فَذَكَرَهُ، وقد أسْلَفْنَاه عن حِكايةِ ابنِ المنذر أيضًا.
          قال البُخاريُّ: (وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: إِذَا ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ أَعَادَ الصَّلاَةَ وَلَمْ يُعِدِ الوُضُوءَ).
          وهذا الأثَرُ رواه البيهقيُّ في «المعرفة» مِن حديثِ إبراهيمَ بن عبد الله حدَّثنا وكيعٌ عن الأعمشِ عن أبي سفيانَ: سُئِلَ جابرٌ فَذَكَرَهُ، قال: ورواهُ أبو شَيبَة قاضي واسِطٍ عن يزيدَ أبي خالدٍ عن أبي سُفيان مرفوعًا، واختُلف عليه في متْنِه والموقوفُ هو الصَّحيحُ ورفعُهُ ضعيفٌ. قلتُ: لا جَرَمَ اقتصرَ البخاريُّ على الوقْفِ، وكذا قال الدَّارَقُطنيُّ عن أبي بكرٍ النَّيسابُوريِّ: هذا حديثٌ منكَرٌ والصَّحيحُ عن جابرٍ خلافُه، وفي لفظٍ عن جابِرٍ: ((لا يَقْطَعُ التبسُّمُ الصَّلاةَ حتَّى يُقَرْقِرَ)).
          قال البَيْهَقِيُّ: ورُوِيَنا عن عبدِ الله بن مسعودٍ وأبي موسى الأشعَرِيِّ وأبي أُمَامةَ الباهِلِيِّ ما يدلُّ على ذلكَ، وهو قولُ الفقهاءِ السَّبعةِ وقولُ الشَّعبيِّ وعطاءٍ والزُّهريِّ، وهو إجماعٌ فيما ذكَرَهُ ابنُ بطَّالٍ وغيرُه، وإنَّما الخلاُف في نَقْضِ الوُضوءِ به، فذَهَبَ مالكٌ واللَّيثُ والشَّافِعِيُّ إلى أنَّه لا ينقُضُ الوُضوءَ، وذَهَبَ النَّخَعِيُّ والحسَنُ إلى أنَّه ينقُضُ، وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابُه والثَّوريُّ والأوزاعيُّ.
          وحُجَّةُ مَن لمْ يَرَهُ حدَثًا أنَّه لَمَّا لم يكن حدَثًا في غيرِ الصَّلاةِ لم يكن حدَثًا فيها. وحديثُ أبي المليحِ عن أبيه وأنسٍ وعمرانَ وأبي هُريرة ضعَّفها كلَّها الدَّارَقُطنيُّ وقال: إنَّه يدور على أبي العالِيةِ يعني مُرْسَلًا، وهو الصَّوابُ.
          قال البُخاري: (وَقَالَ الحَسَنُ: إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ أَوْ أَظْفَارِهِ أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ فَلاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ). /
          هذا أسندَهُ ابنُ أبي شَيبَةَ بإسنادٍ صحيحٍ عن هُشَيمٍ أخبَرَنا يونُسُ عنه، وذكره أيضًا عن الحَكَمِ وعطاءٍ وسعيدِ بن جُبيرٍ وأبي وائلٍ وابنِ عمَرَ. وعن عَلِيٍّ ومجاهدٍ وحمَّادٍ: يُعيدُ الوُضوءَ. وعن إبراهيمَ: يُجْرِي عليه الماءَ. قال ابنُ بطَّالٍ: ما ذَكَرَهُ عن الحسَنِ هو قولُ أهلِ الحِجَازِ والعِراقِ، ورُوِيَ عن أبي العاليةِ والحَكَمِ وحمَّادٍ ومجاهدٍ إيجابُ الوُضوءِ في ذلكَ، وقال عطاءٌ والشَّافِعِيُّ والنَّخَعِيُّ: يُمِسُّهُ الماءَ.
          وأمَّا مَن خَلَعَ نَعْلَيْهِ بعدَ المسحِ عليهِما ففيه أربعةُ أقوال:
          أحدُها: استئنافُ الوُضوءِ مِن أَوَّلِه، وبه قال مكحولٌ وابنُ أبي ليلَى والزُّهريُّ والأوزاعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ والشَّافِعِيُّ في القديمِ.
          ثانِيها: يغسِلُ رِجْلَيه مكانَهُ فإنْ لم يفْعَل استأنَفَ الوُضوءَ، وبه قال مالكٌ واللَّيثُ.
          ثالثُها: يغسِلُهُما إذا أرادَ الوُضوءَ، وبه قال الثَّوريُّ وأبو حنيفةَ والشَّافِعِيُّ في الجديدِ والمزَنيُّ وأبو ثورٍ.
          رابعُها: لا شيء عليه ويُصَلِّي كما هُو، وهو قولُ الحسَنِ وقَتادةَ، ورُوِيَ مِثْلُهُ عن النَّخَعِيِّ.
          قال البخاريُّ: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لاَ وُضُوءَ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ).
          قدْ أسلَفَهُ مرفوعًا بنحوِه مِن حديثِه في بابِ لا تُقبل صلاةٌ بغيرِ طُهُورٍ [خ¦135] وحديثُه السَّالِفُ قريبًا: ((لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ)) بمعناه. ورواهُ أبو عُبَيْدٍ في كتاب «الطهور» بلفظ: ((لا وُضُوء إلَّا مِن حَدَثٍ أو صَوْتٍ أو رِيْحٍ)).
          قال البُخاريُّ: (وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ وَسَجَدَ وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ).
          وهذا قد أسنَدَهُ أبو داودَ وصحَّحهُ ابنُ حِبَّانَ مِن حديثِ ابن إسحاقَ قال: حدَّثني صَدَقةُ بن يَسارٍ عن عقيل بن جابٍر عن أبيه جابرٍ به مُطوَّلًا. والرَّجُلُ الَّذي نَزَفَهُ الدَّمُ عَبَّادُ بن بِشْرٍ، والنَّائِمُ المذكورُ فيهِ هو عمَّارُ بنُ ياسِرٍ، والسُّورَةُ الَّتي قال: لمْ أقطعْهَا، الكَهْفُ كما ذكره ابن بَشْكُوال وغيرُه، وقيل: الأنصاريُّ عُمَارَةُ بن حَزْمٍ، والمشهورُ أنَّهُ عبَّادٌ حَكَى ذلكَ المنذِرِيُّ بزيادةِ أنَّها جهر، والسُّورةُ عن البيهقيِّ.
          وقولُه: (فَنَزَفَهُ الدَّمُ) أي سالَ دَمُهُ كُلُّه. قال ابنُ التِّينِ: كذا رُوِيَناه، والَّذي عندَ أهلِ اللُّغةِ نُزِفَ دَمُهُ أي سَالَ كلُّه، على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، وضُبِط هذا في بعضِ الكُتُبِ بفَتْحِ الزَّايِ والنُّونِ، كذا ذَكَرَهُ وفي «المحكم»: أَنْزَفَتْهِيَ نُزِحَتْ، يعنِي البِئْرَ. وقال ابنُ جِنِّي: نَزَفْتُ البِئْرَ وأَنَزَفَتْ هِيَ، جاءَ مخالفًا للعادةِ. وقال ابن طريف: تميمٌ تقولُ: أَنْزَفَتْ وقَيْسٌ: نَزَفَتْ. رجع، ونَزَفه الحجَّام يَنزِفُهُ ويَنْزُفُه: أخرجَ دَمَهُ كلَّه. والنُّزْف: الضَّعفُ الحادِثُ عن ذلك. ونَزَفَه الدَّمُ وإنْ شئتَ قلتَ: أَنْزَفَهُ. وحَكَى الفرَّاء: أَنْزَفَتِ البِئْرُ: ذَهَبَ ماؤُها، وفي «الصِّحَاحِ»: يَنْزِفُهُ الدَّمُ: إذا خَرَج منه دَمٌ كثيرٌ حتَّى يَضْعُفَ فهو نَزِيفٌ ومنزُوفٌ.
          فائدةٌ: غزوةُ ذاتِ الرِّقاع كانتْ في الثَّانِيةِ مِن سِنِيِّ الهجرةِ، وذكرَها البُخارِيُّ بعدَ خيبَرَ مُستدِلًّا بحضورِ أبي مُوسى فيها، وأنَّهم لَمَّا نَقِبَتْ أقدامُهم لفُّوا عليها خِرَقًا فسُمِّيت ذاتَ الرِّقاعِ، وسيأتي بَسْطُ ذلك في موضعِه.
          قال البُخاريُّ: (وَقَالَ الحَسَنُ: مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ).
          رَوَى ابنُ أبي شَيبَةَ عن هُشَيمٍ عن يونُسَ عن الحسنِ أنَّه كان لا يرَى الوُضوءَ مِن الدَّمِ إلَّا ما كان سائلًا.
          قال البُخاريُّ: (وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَطَاءٌ وَأَهْلُ الحِجَازِ: لَيْسَ فِي الدَّمِ وُضُوءٌ).
          وهذا رواه ابنُ أبي شَيبَةَ عن عُبيدِ الله بنِ مُوسى عن حنظلةَ عن طاوس أنَّه كان لا يَرَى في الدَّمِ السَّائلِ وُضوءًا، يَغْسِلُ عنه الدَّمَ ثمَّ حَسْبُه، وَحَكَى نَحْوَ هذا عن سعيدِ بن المسيِّبِ وكذا عن أبي قِلابة وسعيدِ بن جُبَيرٍ وجابرٍ وأبي هُريرة. قال ابنُ بطَّالٍ: حديثُ جابرٍ السَّالِفُ يدُلُّ على أنَّ الرُّعافَ والدَّمَ لا ينقُضانِ الوُضوءَ، وهو قولُ أهلِ الحِجَازِ وَرَدٌّ على أبي حنيفةَ.
          وفي الحِجَامَةِ عندَ أبي حنيفةَ وأصحابِه الوُضوءُ وهو قولُ أحمدَ بنِ حنبَل. وعندَ ربيعةَ ومالكٍ واللَّيثِ وأهلِ المدينةِ لا وضوءَ عن الحِجَامَةِ، وهو قولُ الشَّافِعِيِّ وأبي ثورٍ وقالوا: ليسَ في الحِجَامةِ إلَّا غَسْلُ مواضِعِها فقط. وقال اللَّيثُ: يُجزِئُ أنْ يمسَحَهُ ويصلِّي ولا يَغْسِلُه.
          وسائِرُ ما ذَكَرَهُ البُخاريُّ في البابِ مِن أقوالِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ أنَّه لا وُضوءَ في الدَّمِ والحِجَامةِ مطابقٌ للترجمة أنَّه لا وُضوءَ في غيرِ الْمَخرجينِ، وكذلِكَ أحاديثُ البابِ حُجَّةٌ فيه أيضًا. قلتُ: فإنْ كانَ الدَّمُ يسيرًا غيرَ خارِجٍ ولا سائلٍ فلا ينقضُ عندَ جميعِهم، وانفرد مجاهدٌ بالإيجابِ مِن يسيرِ الدَّمِ.
          قال البُخاريُّ: (وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ).
          وهذا الأثر أسندَه ابنُ أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفِه» بإسنادِه الصَّحيحِ عن عبد الوَّهابِ حدَّثنَا سليمانُ التَّيمِيُّ عن بكرٍ قال: رأيتُ ابنَ عمَرَ عصَرَ بَثْرَةً في وجهِه فخرجَ منها شيْءٌ مِن دَمٍ فحكَّهُ بينَ إصبعيْهِ ثُمَّ صلَّى ولم يتوضَّأْ. ثُمَّ رَوَى بإسنادِه عن سعيدِ بن المسيِّب أنَّه أدخلَ أصابِعَهُ في أنفِه فخرجَ منه دَمٌ، فمسحَه وصلَّى ولم يتوضَّأْ، وعن أبي هُريرةَ أنَّه كان لا يرى بالقَطْرةِ والقطرتينِ مِن الدَّمِ في الصَّلاةِ بأسًا، وعن أبي قِلابة أنَّه كان لا يرى بأسًا به إلَّا أن يسيَل أو يقْطُرَ، وعن جابرٍ وأبي سوَّارٍ العَدَوِيِّ نحوُه.
          وحديثُ: ((الوُضُوءُ مِن كلِّ دمٍ سائلٍ)) له طُرقٌ لا يصحُّ منها شيءٌ. قال ابن الحَصَّار في «تقريب المدارِكِ»: لا يصحُّ في الوضوءِ مِن الدَّمِ شيءٌ إلَّا وُضوءُ المستحاضةِ.
          فائدةٌ: البَثْرَةُ خَرَّاجٌ صغيرٌ وجمْعُه بَثْرٌ، وفي «الصِّحاح»: بَثرَ وجْهُهُ بالضَّمِّ والكسْرِ والفَتْحِ ثلاثُ لغاتٍ. قال ابن طريف: والكسْرُ أفصَحُ.
          قال البُخاريُّ: (وَبَزَقَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى دَمًا فَمَضَى فِي صَلاَتِهِ).
          وهذا رواهُ ابنُ أبي شَيبَةَ في «مصنَّفِه» بإسنادِه الصَّحيحِ عن عبد الوَّهابِ الثَّقَفِيِّ عن عطاءِ بنِ السَّائبِ قال: رأيتُ ابنَ أبي أوفَى بَزَقَ دَمًا وهُو يصَلِّي ثُمَّ مضى في صلاتِه. وعندَ أبي موسى: بَزَقَ عَلَقَةً. ثُمَّ رَوَى عن الحسَنِ في رَجُلٍ بَزَقَ فرأى في بُزاقِه دَمًا، أنَّه لم يَرَ ذلك شيئًا حتى يكونَ عَبِيطًا، وعنِ ابنِ سيرينِ رُبَّما بَزَقَ فيقولُ لرَجُلٍ: انظر هل تغيَّر الرِّيقُ؟ فإنْ قالَ: تغيَّرَ بَزَقَ الثَّانيةَ، فإنْ كانَ / في الثَّالِثَةِ مُتَغيِّرًا فإنَّه يتوضَّأُ، وإنْ لم يكن في الثَّالِثَةِ مُتَغيِّرًا لم يَرَ وُضوءًا.
          وعن إبراهيمَ والحارثِ العُكْلِيِّ: إذا غلبَتِ الحمرةُ البياضَ توَّضأَ وعَكْسُهُ لا يتوضَّأ، وبَزَقَ سالمٌ دمًا أحمرَ ثُمَّ مَضْمَضَ ولم يتوضَّأْ وصلَّى، وعن حمَّادٍ: في الرَّجُلِ يكونُ على وُضوءٍ فيرى الصُّفْرَةَ في البُزَاقِ فقال: ليسَ بشَيْءٍ إلَّا أنْ يكونَ دمًا سائلًا، وعن سالمٍ والقاسِمِ وسُئِلَا عن الصُّفْرَةِ في البُزَاقِ فقالا: دَعْ ما يَرِيبُكُ إلى ما لا يَرِيبُكَ، وعن عامِرٍ الشَّعبِيِّ: لا يَضُرُّه.
          قال البُخاريُّ: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالحَسَنُ فِيمَنْ يَحْتَجِمُ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا غَسْلُ مَحَاجِمِهِ).
          وهذان رواهُمَا ابنُ أبي شَيبَةَ قال في «مصنَّفِه»: حدَّثَنا ابن نُمير حدَّثَنا عُبيد الله عن نافعٍ عن ابن عمرَ أنَّه كان إذا احتجَمَ غَسَل أَثَرَ مَحَاجِمِه. وفي «المحلَّى»: غَسَلَهُ بحصاةٍ فقطْ. وحدَّثَنا حفْصٌ عن أشعثَ عن الحسنِ وابنِ سيرينَ أنَّهما كانا يقولان: يغسِلُ أثَرَ المحاجِمِ. وحدَّثَنا ابنُ إدريسَ عن هشامٍ عن الحسنِ ومحمَّدٍ أنَّهما كانا يقولان في الرَّجُلِ يحتجمُ: يتوضَّأُ ويغسِلُ أَثَرَ المحاجِمِ. وحدَّثَنا عبدُ الأعلى عن يونُسَ، عن الحَسَنِ أنَّه سُئِلَ عن الرَّجُلِ يحتَجِمُ ماذا عليه؟ قال: يغسِلُ أَثَرَ محاجِمِه.
          ولَمَّا ذَكَرَ ابنُ بطَّالٍ في «شرحِه» أَثَرَ ابنَ عمرَ والحسنِ قال: هكذا رواه المستمْلِي وحدَه بإثباتِ (إِلَّا)، ورَوَاهُ الكُشْمِيهَنِيُّ وأكثَرُ الرُّواةِ بغيرِ (إِلَّا) قال: والمعروفُ عن ابنِ عمرَ والحسَنِ أنَّ عَلَيْهِ غسل محاجمه، ذَكَرَهُ ابنُ المنذرِ، فَرِوايةُ المستَمْلِي هي الصَّوابُ.