التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التيمن في الوضوء والغسل

          ░31▒ بَابُ التَّيَمُّنِ فِي الوُضُوءِ وَالغَسْلِ.
          167- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم لَهُنَّ فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ: (ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا).
          168- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ، سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ، فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ).
          أمَّا حديثُ أمِّ عطيَّةَ فأخرجه البُخاريُّ في الجنائزِ في تسْعَةِ مواضِع ستعلمُها هناك إن شاء الله [خ¦1253] [خ¦1262] وأخرجه مسلمٌ والأربعةُ في الجنائزِ. قال التِّرمِذِيُّ: وفي البابِ عن أُمِّ سُليمٍ. وأمَّا حديثُ عائشةَ فأخرجهُ هنا وفي الصَّلاةِ والأطعمةِ واللِّباسِ في موضِعَيْنِ منه. وأخرجه مسلمٌ في الطَّهارةِ، وكذا النَّسائيُّ وابنُ ماجه، وأخرجه أبو داودَ في اللِّباسِ والتِّرمِذِيُّ في آخِرِ الصَّلاةِ وقال: حسنٌ صحيحٌ، وفي «الشَّمائل» أيضًا.
          الكلامُ على حديثِ أمِّ عَطِيَّةَ مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: تابَعَ محمَّدُ بنُ سيرينَ أختَه حفصةَ على روايةِ هذا الحديثِ واشتهرَ عنهما وعن خالدٍ الحذَّاء، وكذا عن إسماعيلَ بنِ عُلَيَّةَ، ورواهُ عن مُسَدَّدَ أبو خَلِيفَةَ، وروى ابنُ عبد البَرِّ مِن طريقِ همَّامٍ عن قتادةَ عن أنسٍ أنَّه كان يأخذ ذلك عن أمِّ عطيَّةَ قالت: ((غسَّلْنا ابنةَ رسولِ الله صلعم، فأمَرَنَا أنْ نغسِّلَها بالسِّدرِ ثلاثًا، فإنْ أَنْقَتْ وإلَّا فخمْسًا وإلَّا فأكثر مِن ذلك)). قال: فأُرِيْنَا أنَّ أكثرَ مِن ذلك سبعٌ.
          ثانيها: في التَّعريفِ بِرُواتِه غيرَ مَن سَلَفَ:
          (أُمِّ عَطِيَّةَ) اسمُها نُسَيْبَةُ _بِضَمِّ النُّونِ وَحُكِيَ فتْحُها مع كسْرِ السِّينِ_ بنتُ كعْبٍ، قاله جماعاتٌ منهم أحمدُ ويَحيى، واستشكلَهُ أبو عمرَ لأنَّها أمُّ عُمَارة وهذه بنتُ الحارِثِ، وقال ابنُ طاهرٍ: كلٌّ منهما بنتُ كعْبٍ. وأفادَ ابنُ الجوزيِّ أنَّها بِضَمِّ النُّونِ ثَلاثٌ: هذه وبنتُ رافع بن المُعلَّى وبنتُ نِيَار بنِ الحارِث، وبالفتْحِ ثَلَاثٌ: بنتُ ثابتِ بنِ عُصَيْمَةَ وبنتُ سِمَاك بن النُّعمانَ وبنتُ كعبٍ وهي أمُّ عُمَارة، كذلكَ سمَّاها الأكثرونَ _أعني أمَّ عُمَارة_ منهُم ابنُ مَاكولا.
          وذكرها ابنُ إسحاقَ في «مغازيه» باللَّامِ المضمومَةِ وبالنُّونِ ووافَقَه الطَّبرانيُّ، وبخطِّ الصَّريفينيِّ بالباء، وفي «صحيحِ أبي عَوانة» في الزَّكاة بمثنَّاةٍ فوق ثُمَّ تحت ثُمَّ باءٍ موحَّدةٍ بالخطِّ. وقيل إنَّها نَبِيشَةُ بنونٍ ثُمَّ باءٍ ثُمَّ ياءٍ ثُمَّ شينٍ معجَمَةٍ، حكاه القُشيريُّ في «شرحه».
          وبقِيَ نسيبة بنت سِمَاك بن النعمان أسلمَتْ وبايعتْ، قاله ابنُ سعدٍ، ونُسيبة بنت أبي طلحةَ الخَطْمِيَّةُ، ذَكَرَهَا ابنُ سعدٍ، وفي «تاريخِ أبي حاتمٍ الرَّازيِّ» أنَّ اسمَ أمِّ عَطِيَّة حُقَّة، وأمُّ عطيَّةَ هذه لها صُحبةٌ وروايةٌ تُعَدُّ في أهلِ البصرةِ، وكانتْ تغسِّلُ الموتَى وتغزُو مع النَّبيِّ صلعم، غَزَتْ معه سَبْعَ غزواتٍ وشهِدتْ خيبرَ، وكانَ عليٌّ يَقِيلُ عندَها وكانتْ تنتِفُ إِبطَهُ بِوَرْسَةٍ، لها أربعونَ حديثًا اتَّفقَا على سبعةٍ أو سِتَّةٍ وللبُخاريِّ حديثٌ ولمسلمٍ آخَرُ.
          فائدةٌ: أمُّ عطيَّةَ في الصَّحابةِ ثلاثٌ: هذه الغاسِلَةُ، والخاتِنَةُ ولعلَّها هي، والعَوْصِيَّةُ والأكثرُ فيها أمُّ عِصْمَة امرأةٌ مِن قيْسٍ.
          وأمَّا (حَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ) فهي أمُّ الهُذَيلِ الأنصاريَّةُ التَّابِعِيَّةُ الثِّقَةُ الحُجَّةُ، وهي أكبَرُ ولَدِ سيرين مِن الرِّجالِ والنِّساءِ. قال إيَاسُ بنُ معاويةَ: ما أدركتُ أحدًا أُفَضِّلُهُ عليها. قيل له: الحسَنُ وابنُ سيرين؟ قال: أمَّا أنا فما أُفَضِّل عليها أحدًا، قَرَأَتِ القرآنَ وهي بنتُ ثِنْتَيْ عَشرةَ سنة، وماتتْ عن سبعينَ سنة.
          ثالثُها: هذه الابنةُ المبهَمَةُ هي أمُّ كلثومٍ زوجُ عثمانَ بنِ عفَّانَ، غسَّلتها أسماءُ بنتُ عُميسٍ وصفيَّةُ بنتُ عبدِ المطَّلِبِ، وشهِدَتْ أمُّ عَطِيَّةَ غُسْلَها، وذكَرَتْ قولَه في كيفِيَّةِ غُسلِها، ماتَتْ سنةَ تِسْعٍ، قالهُ أبو عمرَ. وفي «صحيحِ مسلمٍ» أنَّها زينبُ بنتُ رسولِ الله صلعم، وماتتْ في السَّنةِ الثَّامنَةِ، ولَمَّا نَقَلَ القاضي عياضٌ عن بعضِ أهلِ السِّيَرِ أنَّها أمُّ كُلْثُومٍ قال: الصَّوابُ زينبُ كما صرَّحَ به مسلمٌ في روايتِه، وقد يُجمَعُ بينهما بأنَّها غسَّلتْ زينبَ وحَضَرَتْ غُسْلَ أمِّ كُلثومٍ.
          وذَكَر المنذِريُّ في «حواشِيه» أنَّ أمَّ كُلْثُومٍ تُوفِّيتْ ورسولُ الله صلعم ببدْرٍ غائبٌ، وغُلِّطَ في ذلكَ فتلْكَ / رُقَيَّةُ، ولَمَّا دُفِنَتْ أمُّ كُلْثُومٍ قال صلعم: ((دَفْنُ البَنَاتِ مِن الْمَكْرُمَاتِ)).
          رابعُها: في أحكامِه:
          الأوَّلُ: استحبابُ الوُضوءِ في أوَّلِ غُسْلِ الميِّتِ عملًا بقولِه: (وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا) وهو مذهبُ الشَّافِعِيِّ، ونَقَلَ النَّوويُّ عن أبي حنيفةَ عدمَ استحبابِه، وليسَ كذلكَ ففي القُدوريِّ مِن كُتُبِهم أنَّ الميِّتَ إذا أرادُوا غُسْلَهُ وضَّؤُوهُ، وفي «الهداية»: لأنَّ ذلكَ مِن سُنَّةِ الغُسْلِ غيرَ أنَّه لا يُمضمَضُ ولا يُستنشَقُ لأنَّ إخراجَ الماءِ مِن فمِه متعذِّرٌ؛ لأنَّ لِأعضاءِ الوُضوءِ فضلًا فإنَّ الغُرَّةَ والتَّحجيلَ فيها. وهل يُوضَّأُ في الغَسْلَةِ الأُولَى أو الثَّانيةِ أو فيهما؟ فيه خلافٌ للمالكيَّةِ كما حكاهُ القُرْطُبيُّ.
          الثَّاني: استحبابُ تقديمِ الميامِنِ في غُسْل الميِّت ويلحقُ به سائرُ الطَّهاراتِ، وبه تُشعِرُ ترجمةُ البُخاريِّ، وكذا أنواعُ الفضائلِ والأحاديثِ فيه كثيرةٌ، وبالاستحبابِ قال أكثرُ العُلماءِ، وقال ابنُ حزْمٍ: ولا بُدَّ يبدأُ بالميامِنِ، وقال ابنُ سيرينَ: يَبدأُ بمواضِعِ الوُضوءِ ثُمَّ بالميامِنِ، وقال أبو قِلابةَ: يبدأُ بالرَّأسِ ثُمَّ اللِّحْيَةِ ثُمَّ الميامِنِ.
          الثَّالثُ: فضلُ اليمينِ على الشِّمالِ، أَلَا تَرَى قولَه صلعم حاكيًا عن ربِّه: ((وَكِلْتَا يَدَيهِ يَمِينٌ)). وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:19] وهُم أهلُ الجَنَّةِ. وإعجابُه صلعم التَّيامُنَ في شأنِه كلِّه لأنَّهُ كان يعجِبُهُ الفَألُ الحَسَنُ.
          الرَّابِعُ: أحقِّيَّةُ النِّساءِ بغُسْلِ النِّساءِ حتَّى مِن الزَّوجِ، وبه قال جماعةٌ، وذَهَبَ الشَّعبيُّ والثَّوريُّ وأبو حنيفةَ إلى أنَّه لا يجوزُ له غُسلُها، وأجمعوا على غُسْلِ الزَّوجةِ زَوجَها، والجُمهورُ على أنَّه أحَقُّ مِن الأولياءِ خِلافًا لسُحْنُون حيثُ قال: إنَّهم أَحَقُّ.
          الخامسُ: أنَّه لا غُسْلَ مِن غُسْلِ الميِّتِ حيثُ لم يُنَبِّه الشَّارِعُ أمَّ عَطِيَّةَ عليه، وهو مذهبُ الجُمهورِ. قال الخطَّابيُّ: لا أعلمُ أحدًا قال بوجوبِه. قلتُ: حُكِيَ قولٌ عندَنا بوُجوبِه، وأوجَبَ أحمدُ وإسحاقُ الوُضوءَ منه، وَوَرَدَ حديثُ الأمْرِ بالغُسْلِ منه وفيه مقالٌ. وأمَّا حديثُ عائشةَ فتابَعَ أبو الأحوصِ ومحمَّدُ بنُ بِشرٍ شُعبةَ فرُوِيَاه عن أشعَثَ، ورواه عن شُعبةَ ثمانيةُ أنفُسٍ.
          ثانِيها: في التَّعريفِ بِرُواتِه غيرَ مَن سَلَفَ:
          أَبُو أَشْعَثَ هو أبو الشَّعثاءِ سُلَيمُ بنُ الأسْوَدِ بنِ حنظلة المحاربيُّ، تابِعِيٌّ ثِقَةٌ ماتَ سنةَ ثلاثٍ ومئة. وقال خليفة: سنةَ اثنتَينِ وثمانينَ بعدَ الجَّمَاجِمِ. رَوَىَ له الجماعةُ _ووقَعَ في «الكمال»_ خلا التِّرمِذِيِّ، ووَلَدُهُ أشْعَثُ ثِقَةٌ، ماتَ سنةَ خمسٍ وعشرينَ ومئة.
          و(حَفْصُ بْنُ عُمَرَ) هو أبو عمرَ الحَوْضِيُّ البصْرِيُّ الثَّبتُ الحُجَّةُ، عنهُ البُخاريُّ وأبو داودَ وغيرُهما، وأخرجَ له النَّسائيُّ أيضًا. قال أحمدُ: لا يؤخَذ عليه حَرْفٌ، ماتَ سنةَ خمسٍ وعشرينَ ومئتين، وليسَ في البُخاريِّ حفصُ بنُ عمرَ غيرُه، وفي السُّنَنِ مفرَّقًا غَيرُهُ جماعَاتٌ.
          ثالثُها: التَّنَعُّلُ لُبْسُ النَّعْلِ، والتَّرَجُّلُ تسريحُ الشَّعرِ. قال الهَرَوِيُّ: شَعرٌ رَجِلٌ أيْ مُسَرَّحٌ.
          وقولُه: (وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ) عامٌّ يُخَصُّ منه دُخولُ الخَلاءِ والخُروجُ مِن المسجدِ يبدَأُ فيهما باليَسارِ وكَذَا ما شابَهَهُما.
          رابعُها: في أحكامِه:
          فيه استحبابُ البداءةُ باليمينِ، قال ابنُ المنذِرِ: أجمعوا على أَلَّا إعادةَ على مَن بَدَأَ بيسارِه في الوُضوءِ قبْلَ يمينِه، ورُوِيَنا عن عليٍّ وابنِ مسعودٍ أنَّهما قالا: لا تُبالي بأيِّ يدٍ بدَأْتَ. زاد الدَّارَقُطنيُّ أبا هُريرة، ونَقْلُ المرتضى الشيعيِّ عن الشَّافِعِيِّ في القديمِ وجوب تقديمِ اليُمنَى على اليُسرَى غريبٌ، وعزاهُ الرَّافِعِيُّ لأحمدَ وهو غريبٌ، وحكاهُ الدَّارِميُّ عن أبي هُريرةَ، وهو معروف عن الشِّيعَةِ _بالشِّينِ المعجمَةِ_. وَوَقَعَ في «تجريدِ البَنْدَنِيجِيِّ» و«البيان» عَزْوُهُ إلى الفُقَهاءِ السَّبعَةِ وصوابُه الشِّيعةُ.
          فائدةٌ: عن ابنِ عمْرٍو قال: خيرُ المسجِدِ المقامُ ثُمَّ مَيامِنُ المسجدِ. وكان سعيدُ بنُ المسيِّبِ يُصَلِّي في الشِّقِّ الأيمنِ مِن المسجدِ، وكان إبراهيمُ يُعجِبُه أن يقومَ عن يمينِ الإمامِ، وكان أنسٌ يُصلِّي في الشِّقِّ الأيمنِ، وكذا عن الحَسَنِ وابنِ سيرينَ.