التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة

          ░32▒ بَابُ التِمَاسِ الوَضُوءِ إِذَا حَانَتِ الصَّلاَةُ.
          (وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَضَرَتِ الصُّبْحُ، فَالْتُمِسَ الْمَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ، فَنَزَلَ التَّيَمُّمُ).
          هكذا أخرجه هنا معلَّقًا، وقد أخرجه في مواضع مِن كتابِه مختصَرًا ومطوَّلًا سنقِفُ عليها في مواطِنِها مِن الشَّرحِ إنْ شاء الله.
          169- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم وَحَانَتْ صَلاَةُ العَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوا، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلعم بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلعم فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ).
          الكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجه أيضًا في علاماتِ النُّبوَّة [خ¦3572] [خ¦3575] وأخرجه مسلمٌ والتِّرمِذِيُّ في الفضائلِ والنَّسائيُّ في الطَّهارة، ورواه عن أنسٍ أيضًا قَتَادةُ وثابتٌ وحُمَيدٌ، وذَكَرَ المهلَّبُ أنَّه رواهُ عن النَّبيِّ صلعم أنسٌ وعبدُ الله بنُ زيدٍ.
          قال التِّرمِذِيُّ: وفي البابِ عن عِمْرَانَ بنِ حُصَينٍ وابنِ مسعودٍ وجابرٍ، وحديثُ أنسٍ حسنٌ صحيحٌ واشتَهَرَ عن مالكٍ، ورواه عن التِّنِّيْسِيِّ بكرُ بنُ سهْلٍ ومحمَّدُ بنُ الجُنَيد. وحديثُ عِمرانَ وابنِ مسعودٍ وجابرٍ ذَكَرَهَا البُخارِيُّ في علاماتِ النُّبوَّةِ كما ستعرفُهُ هناكَ.
          ثانِيها: في التَّعريفِ بِرُواتِه: وقد سَلَفَ التَّعريفُ بهم.
          ثالثُها: موضِعُ التَّرجَمةِ مِن الفقْهِ التَّنبيهُ على أنَّ الوضوءَ لا يجِبُ قبْلَ دخولِ الوقتِ كما نبَّه عليه ابن الْمُنَيِّرِ؛ لأنَّه صلعم لم يُنكِرْ عليهم تأخيرَ طَلَبِ الماءِ إلى حين وقتِ الصَّلاةِ فدلَّ على جوازِه، وذَكَرَ ابنُ بطَّالٍ أنَّه إجماعُ الأُمَّةِ، وإنْ توضَّأَ قبْلَ الوقتِ فحسنٌ، ولا يجوزُ التَّيمُّمُ عندَ أهلِ الحجازِ قبْلَ دخولِ الوقتِ وأجازهُ أهلُ العراقِ.
          رابعُها: قولُه: (وَحَانَتْ صَلاَةُ العَصْرِ) زادَ قتادةُ: ((وهُو بالزَّوْرَاء)) وهو سُوقٌ بالمدينةِ.
          خامسُها: (الوَضُوءَ) هنا بالفَتْحِ لأنَّه الماءُ الَّذي يُتَوَضَّأُ به، وكذا قولُه: (فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ).
          سادسُها: جاءَ هنا (فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ) وفي روايةِ ابن المبارك: ((فانطلقَ رَجُلٌ مِن القَومِ، فَجَاء بِقَدَحٍ مِن ماءٍ يَسِيرٍ)) وفي روايةٍ: ((رَحْرَاحٍ _أي وهو القصير_ فأخَذَهُ صلعم فتوضَّأَ ثُمَّ مَدَّ أصابِعَهُ على القَدَحِ فَصَغُرَ أن يبْسُطَ كفَّه صلعم فيه فضمَّ أصابعه)). ورَوَى المهُلَّبُ أنَّه كان بمقدارِ وَضوءِ رجُلٍ واحدٍ.
          قال أبو حاتم بن حِبَّان في «صحيحِه»: وهذا اتَّفقَ له صلعم في مواطِنَ متعدِّدَةٍ ففي بعضِها: ((أُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْراحٍ)) وفي بعضِها: ((زُجَاج)) وفي بعضِها: ((جَفْنة)) وفي بعضِها: ((رِكوة)) وفي بعضِها: ((مِيضَأَة)) وفي بعضِها: ((مَزَادة)) وفي بعضِها: ((وكانوا خَمْسَ عَشْرة مئةٍ)) وفي بعضها: ((ثمانِ مئة)) وفي بعضِها: ((زُهَاءَ ثلاثمائة)) وفي بعضِها: ((ثمانين)) / وفي بعضِها: ((سبعين)).
          سابعُها: هذه المعجزةُ أعظمُ مِن تَفَجُّرِ الحَجَرِ بالماءِ لأنَّ ذلكَ مِن عادةِ الحَجَرِ، قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} [البقرة:74] وأمَّا مِن لحمٍ ودَمٍ فلم يُعهد مِن غيرِه صلعم.
          ثامنُها: (يَنْبُعُ) بِضَمِّ الباءِ وكسْرِها، وفي روايةٍ أُخرى: ((ينتَبِعُ)) وفي لفظٍ: ((يَفُورُ مِن بَيْنِ أَصَابِعِهِ)) وفي أُخرى: ((يَتَفَجَّرُ مِن أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ العُيونِ)) وفي أُخرى: ((سَكَبَ ماءً في رِكْوةٍ، ووضعَ إِصْبَعَهُ وَسَطَها غَمَسَها في الماءِ)).
          قال القاضي عياض: وهذه القِصَّة رواها الثِّقاتُ مِن العدَدِ الكثير عن الجمَّاء الغَفيرِ عن الكافَّةِ مُتَّصِلًا عمَّن حدَّث بها مِن جُملَةِ الصَّحابَةِ، وإخبارُهم أنَّ ذلك كان في مواطِنِ اجتماعِ الكثير منهم مِن مَحافِلِ المسلمينَ ومَجْمَعِ العَساكِرِ، ولم يُؤْثَرْ عن أحدٍ مِن الصَّحابةِ مخالفةٌ للرَّاوي فيما حكاهُ ولا إنكارٌ عمَّا ذُكِر عنهُم أنَّهم رَأَوْهُ كما رآهُ، فسكوتُ السَّاكِتِ منهم كنُطْقِ النَّاطقِ، إذْ هم المنزَّهون عن السُّكوتِ على باطِلٍ والمداهَنَةِ في كَذِبٍ وليس هناك رغبةٌ ولا رهبةٌ تمنعُهمْ، فهذا النَّوعُ كلُّه يُلْحَقُ بالقَطْعِيِّ مِن معجزاتِه صلعم.
          وفيه ردٌّ على قولِ ابنِ بَطَّالٍ في «شرحِه»: إنَّ هذا الحديث شَهِدَهُ جماعةٌ كثيرةٌ مِن الصَّحابةِ إلَّا أنَّه لم يُرْوَ إلَّا مِن طريقِ أنسٍ، وذلكَ واللهُ أعلمُ لِطُولِ عُمُرِهِ ولِطلبِ النَّاس العُلُوَّ في السَّنَدِ.
          واستنبط المهلَّب منه أنَّ الأملاكَ ترتفِعُ عندَ الضَّرورةِ لأنَّه إذْ أُتِيَ رسولُ اللهِ بالماءِ لم يكن أَحَدٌ أحقَّ به مِن غيِره بل كانوا فيه سواء. ونوقِشَ فيه وإنَّما فيه المواساةُ عندَ الضَّرورةِ لِمَن كان في مائِهِ فضلٌ عن وَضُوئِه.