التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء

          ░67▒ بَابُ مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي السَّمْنِ وَالمَاءِ.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ بَأْسَ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أَوْ رِيحٌ أَوْ لَوْنٌ).
          وهذا رواهُ عنه عبدُ الله بنُ وهْبٍ في «جامعِه» فيما حكاهُ ابنُ عبدِ البَرِّ عن يونُسَ عنه، وإنَّما ذكَرَهُ البُخاريُّ مِن قولِ هذا الإمامِ لأنَّه رُوِيَ في حديثِ أبي أُمامةَ الباهِلِيِّ وغيرِه وإسنادُهُ ضعيفٌ. نعمْ هو إجماعٌ كما نقلَهُ الإمامُ الشَّافِعِيُّ حيثُ قالَ: وما قلتُ مِن أنَّه إذا تغيَّرَ طعْمُ الماءِ وريحُه ولونُه كان نجِسًا فَيُروَى عن النَّبيِّ صلعم مِن وجْهٍ لا يُثبِتُ أهلُ الحديثِ مِثْلَهُ، وهو قولُ العامَّةِ لا أعلَمُ بينَهم فيه خلافًا.
          قال ابنُ بطَّالٍ: وقولُ الزُّهريِّ هو قولُ الحسَنِ والنَّخَعِيِّ والأوزاعيِّ ومذهبُ أهلِ المدينةِ، وهي روايةُ أبي مُصعبٍ عن مالكٍ، ورَوَى عنه ابنُ القاسمِ أنَّ قليلَ الماءِ ينجُسُ بقليلِ النَّجاسَةِ وإن لم تَظْهَرْ فيه وهوَ قولُ الشَّافِعِيِّ. قال المهلَّبُ: وهذا عندَ أصحابِ مالكٍ على سبيلِ الاستحسانِ والكراهيَةِ لِعَيْنِ النَّجاسةِ وإنْ قَلَّتْ.
          قال البُخاريُّ: (وَقَالَ حَمَّادٌ: لاَ بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ).
          وهذا رواهُ عبدُ الرَّزَّاقِ في «مصنَّفِه» عن مَعْمَر عن حمَّادِ بنِ أبي سُليمانَ أنَّه قال: لا بأس بصُوفِ الميْتَةِ ولكنَّه يُغسَلُ، ولا بأْسَ بِرِيشِ الميْتَةِ. وهذا مذهبُ أبي حنيفَةَ أيضًا كقوله في عِظامِ الفيلِ بناءً على أصْلِه ألَّا رُوحَ فيها، وعندَ مالكٍ والشَّافِعِيِّ نَجِسَةٌ، وقال ابنُ حَبيبٍ: لا خَيْرَ في ريشِ الميْتَةِ لأنَّه له سَنَخٌ أمَّا ما لا سَنَخَ له مثْلَ الزَّغَبِ وَشبهه فلا بأْسَ به إذا غُسِلَ.
          قال ابنُ المنَيِّرِ: ومقصودُ البُخاريِّ بما ترجَمَ له أنَّ المعتَبَر في النَّجاساتِ الصِّفَاتُ، فَلَمَّا كان رِيشُ الميْتَةِ لا يتغيَّرُ بتغيُّرِها لأنَّه لا تَحُلُّه الحياةُ طَهُرَ، وكذلك العِظامُ، وكذا الماءُ إذا خالَطَهُ نجاسةٌ ولم تُغَيِّرْهُ، وكذلك السَّمْنُ البعيدُ عن موْضِعِ الفَأْرَةِ إذا لم يتغيَّرْ كما ساقَهُ البُخاريُّ بَعْدُ.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: رِوايةُ ابنِ القاسِمِ عن مالكٍ أنَّ قليلَ الماءِ ينجُسُ وإن لم يتغيَّرْ يُستَنبَطُ مِن حديثِ الفأرَةِ فإنَّه صلعم مَنَعَ مِن أكْلِ السَّمْنِ لَمَّا خَشِيَ أن يكونَ سَرَى فيه مِن الميْتَةِ المحرَّمَةِ، وإن لم يتغيَّر لونُ السَّمْنِ أو ريحُه أو طعْمُه بموتِ الفَأْرَةِ فيه.
          قال البُخاريُّ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي عِظَامِ الْمَوْتَى، نَحْوَ الفِيلِ وَغَيْرِهِ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ العُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ بِهَا، وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا، لاَ يَرَوْنَ بِهِا بَأْسًا).
          هو مذهبُ أبي حنيفةَ أعني في عَظْمِ الفيلِ ونحوِه، وخالَفَ مالكٌ والشافعيُّ فقالا بنجاسَتِهِ لا يدِّهِنُ فيه ولا يَمْتَشِطُ، إلَّا أنَّ مالكًا وأبا حنيفةَ قالا: إذا ذُكِّيَ الفيلُ فعظْمُهُ طاهِرٌ. وخالَفَ الشَّافِعِيُّ فقالَ: الذَّكاةُ لا تَعْمَلُ في السِّباعِ. ورَوَى الشَّافِعِيُّ عن إبراهيمَ بنِ محمَّدٍ عن عبدِ الله بنِ دينارٍ عن ابنِ عمرَ أنَّه كان يكرَهُ أن يُدهَنَ في مُدْهُنٍ مِن عِظام الفيلِ لأنَّه ميْتَةٌ. وفي لفظٍ: أنَّه كان يكرَهُ عِظَامَ الفيلِ. يعني مطلَقًا. وفي «المصنَّف»: وكرِهَهُ عمرُ بنُ عبدِ العزيز وعطاءٌ وطاوُسُ.
          وأمَّا حديثُ ابنِ عبَّاسٍ الموقوفُ: إنَّما حُرِّم مِن الميتَةِ ما يُؤكَلُ منها وهو اللَّحْمُ، فأمَّا الجِلْدُ والسِّنُّ والعَظْمُ والشَّعرُ والصُّوفُ فهو حلالٌ. فتفرَّدَ به أبو بكرٍ الهُذليُّ عن الزُّهريِّ _كما قال يَحيى بنُ مَعينٍ_ وليس بشيءٍ، قال البَيْهَقيُّ: وقد رَوَى عبدُ الجبَّارِ بنُ مسلمٍ _وهو ضعيفٌ_ عن الزُّهريِّ شيئًا في معناهُ.
          وحديثُ أمِّ سَلَمةَ مرفوعًا: ((لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، ولا بِشَعْرِهَا إذا غُسِلَ بالماءِ)) إنَّما رواهُ يوسُفُ بنُ السَّفْرِ وهو متروكٌ، وقال ابن الموَّاز: نَهَى مالكٌ عن الانتفاعِ بعظْمِ الميتَةِ والفيلِ ولم يُطْلِق تحريمَهُمَا، لأنَّ عُروةَ وابنَ شهابٍ وربيعةَ أجازوا الامتشاطَ فيهِما.
          قال ابنُ حبيبٍ: وأجازَ اللَّيثُ وابنُ الماجِشُونِ وابنُ وهْبٍ ومُطَرِّفٌ وأَصْبغُ الامتشاطَ بها والادِّهانَ فيها، فأمَّا بيعُها فلمْ يرخِّصْ فيه إلا ابنُ وهْبٍ، قال: إذا غُلِيَتْ جازَ بيعُها، وجَعَلَهُ كالدِّبَاغِ لجلْدِ الميْتَةِ يُدْبَغُ أنَّه يُباع. وقال اللَّيثُ وابنُ وَهْبٍ: إنْ غُلِيَ العَظْمُ في ماءٍ سُخِّنَ وطُبِخَ جازَ الادِّهانُ به والامتشاطُ.
          فائدةٌ: قولُ الزُّهريِّ: (يدهنُونَ) يجوز في قراءتِهِ ثلاثَةُ أوجُهٍ: ضمُّ الياءِ وإسكانُ الدَّالِ، أي يُدْهِنُونَ رؤوسَهُم ولِحَاهُمْ ونحوَ ذلك. وثانيها: تشديدُ الدَّال وفتْحُ الهاءِ وتشديدُها. ثالثُها: فتْحُ الدَّال وتشديدُها وكسْرُ الهاءِ مِن ادَّهَنَ افْتَعَل. قال السَّفاقُسِيُّ: وهو ما رُوِيَناهُ، وقَدَّم الأوَّلَ وقال: الآخَرَانِ جائزَانِ.
          قال البُخَاري: (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ: لاَ بَأْسَ بِتِجَارَةِ العَاجِ).
          وهذا التَّعليقُ عن ابن سيرينَ أسندَهُ عبد الرَّزَّاقِ في «مصنَّفِه» فقال: حدَّثنا الثوريُّ عن هِشَام عن ابنِ سيرين: أنَّه كانَ لا يَرَى بالتِّجارَةِ بالعَاجِ / بأسًا. وهذا إسنادٌ صحيحٌ، ورخَّصَ في بيعِه عُروةُ وابنُ وهْبٍ. قال ابنُ بطَّالٍ: ومَن أجازَهُ فهو عندَهُ طاهِرٌ.
          قال ابنُ سِيدَه: والعاجُ أنيابُ الفِيَلَةِ. ولا يُسَمَّى غيرُ النَّابِ عاجًا. وقال القزَّازُ: أنكَرَ الخليلُ أنْ يُسَمَّى غيرُه عاجًا، وذَكَرَ غيرُهُما أنَّ الذَّبْلَ يُسَمَّى عاجًا، ومِمَّنْ صرَّحَ به الخَطَّابيُّ حيثُ قالَ العاجُ الذَّبْلُ. وأُنْكِرَ عليهِ، وفي «الصِّحاحِ» و«المجمَلِ»: العاجُ عظْمُ الفِيلِ. وفي «الصِّحاح» أيضًا: الْمَسَكُ السِّوارُ مِن عاجٍ أو ذَبْلٍ. فغايَرَ بينَهُما.
          ورُوِيَ ((أنَّه صلعم امتشطَ بمُشْطٍ مِن عاجٍ)). ورَوَى أبو داودَ أنَّه صلعم قالَ لِثَوْبَانَ: ((اشْتَرِ لفَاطِمَةَ سِوَارَيْنِ مِن عاجٍ)) لكنَّهما ضعيفانِ. ثُمَّ العاجُ هو الذَّبْل كما قدَّمْنَاهُ، وهو بِذَالٍ معجَمَةٍ ثُمَّ باءٍ موحَّدَةٍ ثُمَّ لامٍ، وهو عَظْمُ ظهْرِ السُّلَحْفَاةِ البَحْرِيَّةِ، صرَّحَ به الأصمعِيُّ وابنُ قُتيبَةَ وغيرُهما مِن أهْلِ اللُّغَةِ. وقال أبو عليٍّ البغدَادِيُّ: العَرَبُ تُسمِّي كلَّ عَظْمٍ عاجًا. قلتُ: فلا يكونُ العظْمُ _أعني عظْمَ الفيلِ_ هُنا مُرادًا لأنَّه ميْتَةٌ فلا تُستعملُ، وواحِدَةُ العاجِ عاجَةٌ.