التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الاستجمار وترًا

          ░26▒ بَابُ الِاسْتِجْمَارِ وِتْرًا.
          162- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: (إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ).
          الكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجهُ أبو داودَ والنَّسائيُّ مِن طريقِ مالكٍ، وأخرجه مسلمٌ مِن طريقٍ آخَرَ.
          ثانِيها: في التَّعريفِ بِرُواتِه، وقد سَلَفَ.
          ثالثُها: في بيانِ ألفاظِه:
          معنَى (تَوَضَّأَ) أرادَ الوُضوءَ.
          وقولُه: (فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ) أي ماءً، حُذِفَ للعلْمِ به، فيؤخَذُ منه حَذْفُ المفعولِ إذا دلَّ الكلامُ عليه، ومعنى (يَجْعَلْ) هنا يُلقي.
          وقولُه: (فِي وَضُوئِهِ) هو بفتْحِ الواوِ.
          رابعُها: / في أحكامِه:
          الأُولى: مطلُوبِيَّةُ الاستنثارِ، وقدْ سَلَفَ في الحديثِ قبْلَهُ.
          الثَّانيةُ: الأمْرُ بالإيتَارِ، وقد سَلَفَ ما فيه أيضًا، والمرادُ بالإيتارِ عندَنا أن يكونَ عددُ المسحَاتِ ثلاثًا أو خمسًا أو فوقَ ذلكَ مِن الأوتارِ. وقدْ أسلفْنَا أنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى سُنِّيَّتَه في الزِّيادةِ على الثَّلاثِ إذا حَصَلَ الإنقاءُ بشَفْعٍ، ومِن أصحابِه مَن أوجبَه مُطلَقًا عملًا بظاهرِ هذا الحديثِ. وحُجَّةُ الجمهورِ الحديثُ السَّالفُ: ((مَنِ اسْتَجْمَرَ، فَلْيُوتِرْ، مَن فَعَل فَقَد أَحْسَنَ وَمَن لا فَلَا حرَجَ)) حَمْلًا له على ما زادَ على الثَّلاثِ جمْعًا بينه وبينَ نهْيِه صلعم عن أن يُسْتَنْجَى بأقلَّ مِن ثلاثةِ أحجارٍ.
          الثَّالثةُ: مشروعيَّةُ غَسْلِ اليدينِ، وكراهةُ غمْسِهِما في الإناءِ في الوُضوءِ ليسَ مختصًّا بنوْمِ اللَّيلِ بل لا فرْقَ فيه بين نومِ اللَّيلِ والنَّهارِ لإطلاقِه صلعم النَّومَ مِن غيرِ تقْييدٍ، وخصَّها أحمدُ بنومِ اللَّيلِ لِقولِه: (أَيْنَ باتَتْ يَدُهُ) والمبيتُ لا يكونُ إلَّا ليلًا، ويؤيِّدُه رِوايةُ أبي داودَ والتِّرمِذِيِّ وصحَّحَها: ((إذا قَامَ أَحَدُكُم مِن اللَّيلِ)) وعنه روايةٌ أُخرَى وافقَهُ عليها داودُ أنَّ كراهتَهُ إنْ كانَ مِن نومِ اللَّيلِ للتَّحريمِ وإلَّا فَلِلتَّنزيهِ. وحمَلَهُ غيرُهُما على أنَّ ذِكْرَ اللَّيلِ لِلْغالِبِ لا للتَّقييدِ، ويُرشِدُ إلى ذلكَ أنَّه علَّلهُ بأمْرٍ يقتضِي الشَّكَّ وهو: ((فإنَّه لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ)) فدلَّ على أنَّ اللَّيلَ والنَّومَ ليسَ مقصودًا بالتَّقييدِ.
          ثُمَّ هذه المشروعيَّةُ _أعني تقديمَ الغَسْلِ على الغَمسْ_ على وجْهِ النَّدْبِ عندَ الشَّافعيِّ ومالكٍ والجُمهورِ، وعلى وجهِ الوُجوبِ عندَ داودَ والطَّبريِّ فلو خالَفَ وغَمَسَ يدَه لم ينْجُسِ الماء خلافًا للحَسَنِ البصريِّ وإسحاقَ وابنِ جريرٍ وروايةٍ عن أحمدَ، وهو بعيدٌ لأنَّه تنجيسٌ بالشَّكِّ، وفي روايةٍ مُنكَرةٍ الأمْرُ بإراقَةِ ذلكَ الماءِ، وقال بعضُ المالكيَّةِ بمقتضاها استحبابًا. وقد بسطتُ الكلامَ على هذه المسألةِ ومتعلَّقاتِها في «شرح العمدة» فراجعْهُ منه.
          الرَّابعةُ: فيه استعمالُ الكِناياتِ فيما يُستَحيَى مِن التَّصريحِ به فإنَّه صلعم قال: ((لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ))، ولم يقلْ: فلعلَّ يدَهُ وقعَتْ على دُبُرِهِ أو على ذَكَرِهِ أو على نجاسَةٍ أو نحو ذلك، وإنْ كانَ مُرادًا.
          الخامسةُ: الفائدةُ في قولِه: (مِنْ نَوْمِهِ) خروجُ الغفلةِ ونحوِها، وفي إضافةِ النَّومِ إلى ضميرِ (أَحَدُكُمْ) لِيخرُجَ نومُه صلعم فإنَّه تنامُ عينُه دونَ قلبِهِ.
          السَّادسةُ: فيه دِلالةٌ على الفرقِ بين وُرَودِ النَّجاسةِ وَوُرُودِها عليه، فإذا وَرَدَ عليها الماءُ أزالَها وإذا ورَدَتْ عليه نجَّسَتْهُ إذا كان قليلًا لِنَهْيِه صلعم عن إيرادَها عليه وأَمْرِهِ بإيرادِه عليها، وذلكَ يقتضِي أنَّ ملاقاةَ النَّجاسَةِ إذا كان الماءُ واردًا عليها غيرُ مفسدٍ له وإلَّا لَمَا حصلَ المقصودُ مِن التَّطهيرِ.
          السَّابعةُ: فيه أيضًا دِلالةٌ على أنَّ الماءَ القليلَ ينجُسُ بملاقاةِ النَّجاسةِ ووقوعِها فيه؛ فإنَّه صلعم إذا مَنَعَ مِن إدخالِ اليدِ فيهِ باحتمالِ النَّجاسةِ فمِنْ تَيَقُّنِها أَوْلَى، وفيه بحثٌ.
          الثَّامنةُ: قولُه: (قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ) يُشعِرُ بأنَّ السِّياقَ للماءِ، والحُكْمُ لا يختلفُ بينَه وبينَ غيرِه مِن الأشياءِ الرَّطْبَةِ.