التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الماء الدائم

          ░68▒ بَابُ البَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ.
          238- حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ، أَنَّ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّه سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: (نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ).
          239- وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ: (لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ).
          الكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ _أعني حديثَ_ (لاَ يَبُولَنَّ) صحيحٌ مُتَّفقٌ على صِحَّتِهِ، أخرجهُ مع البُخاريِّ مسلمٌ والأربعةُ. ولفظَةُ: (فِيهِ) مِن أفرادِ البُخاريِّ، ولمسلمٍ: ((مِنْهُ)) وله: ((لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ)) فقيل: كيفَ يفعلُ يا أبا هُريرة؟ قال: يتناولُه تناولًا.
          ثانِيها: وجهُ إدخالِ البُخاريِّ ☼ الحديثَ الأوَّلَ في هذا البابِ وهوَ حديثُ (نَحْنُ الآخِرُونَ...) إلى آخِرِهِ. أنَّ أبا هُريرةَ رواهُ كذلك، وذَكَرَ مِثْلَ ذلكَ في كتابِ الجهادِ [خ¦2956] والمغازِي والأيْمان والنُّذُور [خ¦6624] وقصص الأنبياء [خ¦3486] والاعتصام [خ¦7495] ذُكِرَ في أوائلها كلِّها: ((نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ)).
          قال ابنُ بطَّالٍ في «شرحِه»: ويُمكِنُ أن يكونَ همَّام فَعَلَ ذلك لأنَّه سَمِعَ مِن أبي هُريرة أحاديثَ ليستْ بكثيرةٍ، وفي أوائلِها ((نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ)) فَذَكَرَها على الرُّتبَةِ الَّتي سمِعَهَا مِن أبي هُريرةَ، ويُمكِنُ _والله أعلم_ أنْ يكونَ سمِعَ أبو هُريرةَ ذلكَ في نَسَقٍ واحدٍ فحدَّثَ بهِمَا جميعًا كمَا سَمِعَهُما.
          قلتُ: البُخاريُّ ساقَ الحديثَ مِن طريقِ الأعرجِ عن أبي هُريرة كما ذكرْتُه لكَ لا مِنْ حديثِ همَّامٍ عنهُ، وتلْكَ تُعرَفُ بصحيفَةِ همَّام، وعادةً مسلمٌ يقولُ فيها: فذَكَرَ أحاديثَ ومنها كذا، وهذه أيضًا صحيفةٌ رواها بِشْرُ بن شُعَيب بن أبي حمزةَ عن أبي الزِّنَادِ عنه عن أبي هُريرة، وأحاديثُها تَقْرُبُ مِن صحيفةِ همَّامٍ، وأَوَّلُها: ((نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ)) وفيها حديثُ البولِ في الماءِ الدَّائِمِ.
          وقولُه: إنَّ همَّامًا سمِعَ مِن أبي هُريرةَ أحاديثَ ليسَتْ بكثيرةٍ، ليسَ بجيِّدٍ لأنَّ الدَّارَقُطْنيَّ جمَعَها في جُزءٍ مُفرَدٍ فبلَغَتْ فوقَ المئةِ. وقولُه: ويُمكِنُ أن يكونَ سَمِعَهُ مِن رسولِ الله صلعم في نَسَقٍ فيه بُعْدٌ.
          وقد وقعَ لمالكٍ في «موطَّئِه» مِثْلُ هذا في موضعينِ:
          أحدُهما: لَمَّا ذَكَرَ حديثَ: ((وإنَّ ممَّا أَدْركَتِ النَّاسُ مِن كلام النُّبوَّة الأُوْلى إِذَا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)) ذَكَرَ إثْرَه حديثَ: ((ووضَعَ اليُمْنَى على اليُسرَى في الصَّلاةِ)) فحدَّثَ بهِمَا جميعًا كمَا سَمِعَهُمَا.
          والثَّاني: حديثُ الغُصْنِ الشَّوْكِ، و ذَكَرَ معهُ ((الشَّهداءُ خَمْسَةٌ)).
          وقال ابنُ الْمُنَيِّرِ: إنْ قلتَ كيفَ طابَقَ هذا مقصودَ التَّرجَمَةِ؟ وهل ذلكَ لِمَا قيلَ إنَّ همَّامًا راوِيهِ رَوَى جُملَةَ أحاديثَ عن أبي هُريرةَ استَفْتَحَهَا له أبو هُريرة بذلكَ، فصارَ همَّامٌ مهمَا حدَّث عن أبي هُريرةَ ذَكَرَ الجُمْلَةَ مِن أوَّلِها واتَّبعه البُخاريُّ في ذلكَ، أو تظْهَرُ مطابقةٌ معنويةٌ؟ قلتُ: يُمكن المطابقةُ، وتحقيقُها أنَّ السِّرَّ في اجتماعِ الآخِرِ في الوجودِ والسَّبْقِ في البعْثِ لهذه الأمَّةِ أنَّ الدُّنيا مَثَلُها للمُؤمِنِ مَثَلُ السِّجْنِ وقدْ أدخَلَ الله فيه الأوَّلينَ والآخِرين على ترتيبٍ، فمُقتَضَى ذلك أنَّ الآخِرَ في الدُّخولِ أوَّلٌ في الخروجِ، كالوعاءِ إذا ملأْتَهُ بأشياءَ وُضِعَ بعضُها فوقَ بعضٍ ثمَّ استخرجْتَها فإنَّما تُخرِجُ أَوَّلًا ما أدخلْتَه آخرًا، فهذا هو السِّرُّ في كوْنِ هذه الأُمَّة آخِرًا في الوُجودِ الأوَّلِ أوَّلًا في الوُجودِ الثَّانِي، ولها في ذلكَ مِن المصلحةِ قِلَّةُ بقائِها في سِجْنِ الدُّنيا وفي أطباقِ البلاءِ بما خَصَّها الله تعالى به مِن قِصَرِ الأعمارِ ومِن السَّبْقِ إلى الْمَعادِ.
          فإذا فُهِمَتْ هذه الحقيقةُ تصوَّرَ الفَطِنُ معناها عامًّا، فكيفَ يليقُ بلبيبٍ أنْ يعمَدَ إلى ما يُطَهِّرُ مِن النَّجاسةِ وممَّا هو أيسرُ منها مِن الغَبَرَاتِ والقَتَراتِ فيبولَ في ماءٍ راكدٍ ثُمَّ يتوضَّأَ منه؟! فأوَّلُ ما يُلاقيه بولُه الَّذي عَزَمَ على التَّطهُّرِ منه، وهو عكْسٌ للحقائِقِ وإخلالٌ بالمقاصِدِ لا يتعاطاهُ أَرِيبٌ ولا يفعلُه لبيبٌ، والحقُّ واحدٌ وإنْ تباعدَ ما بيْنَ طُرُقِهِ.
          وسيأتِي للبُخاريِّ ذِكْرُ حديثِ: ((نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ)) في ترجمةِ قولِه: ((الإمامُ جنَّة يُتَّقَى به ويُقَاتَلُ مِن وَرَائهِ)) [خ¦2957] أي هو أوَّلٌ آخِرٌ، هو أوَّلٌ في إسنادِ الهِمَمِ والعزائِمِ إلى وجودِه وهو آخِرٌ في صُوَرَةِ وقوفِه فلا ينبَغِي لأجنَادِه إذا قاتلُوا بين يدَيْهِ أنْ يظنُّوا أنَّهم حَمَوْهُ، بل هو حَمَاهم وصانَ بتدبيرِه حِماهُم، فهو وإنْ كانَ خلْفَ الصَّفِّ إلَّا أنَّه في الحقيقةِ جُنَّةٌ أمامَ الصَّفِّ، وحقُّ الإمامِ أنْ يكونَ مَحَلَّه مِن الحقيقةِ الأمامُ. هذا آخِرُ كلامِه، وفيه أمرانِ:
          أوَّلُهُما: قولُه: كما قيل إنَّ همَّامًا راويِهِ تَبِعَ فيه ابنَ بطَّالٍ، وقد سَلَفَ رَدُّهُ.
          ثانيهِمَا: ما ذَكَرَهُ مِن المطابقَةِ مِن أنَّ الشَّيءَ إذا أدخلْتَهُ آخِرًا يَخْرُجُ أَوَّلًا، إنَّما يأتي في الأشياءِ الكثيفةِ الأَجْرامِ أمَّا المائِعُ فإنَّه سريعُ الاختلاطِ ودخولِ بعضِه في بعضٍ.
          ثالثُها: معنى (نَحْنُ الآخِرُونَ) آخِرُ الأُمَمِ، و(السَّابِقُونَ) إلى الجنَّةِ يومَ القيامةِ.
          رابعُها: (الدَّائِمِ) الرَّاكد كما جاء في روايةٍ أُخرَى.
          وقولُه: (الَّذِي لاَ يَجْرِي) تأكيدٌ لمعناهُ وتفسيرٌ له، وقيل للاحترازِ عن راكدٍ لا يجرِي بعضُه كالبِرَكِ ونحوِها. والألِفُ واللَّامُ في (الْمَاءِ) لِبَيَانِ حقيقةِ الجنْسِ أو للمعهودِ الذِّهنِيِّ.
          خامسُها: قولُه: (ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ) الرِّوايةُ بالرَّفْعِ، وجوَّز ابنُ مالكٍ جزْمَهُ على النَّهيِ ونَصْبَهُ على تقديرِ أَنْ، ومنَعَهُمَا غيرُه، وقد أوضحْتُ ذلكَ في «شرح العمدة».
          سادسُها: هذا النَّهيُ للتَّحريمِ إنْ كانَ قليلًا لأنَّه ينجِّسُهُ ويقذِّرُهُ على / غيرِه، وللتَّنْزِيهِ إنْ كان كثيرًا، هذا هو الذي يظهَرُ وإنْ أطلقَ جماعةٌ مِن أصحابِنا الكراهةَ في الأوَّلِ. والتغوُّطُ في الماءِ كالبولِ فيه وأقبَحُ، وكذا إذا بالَ في إناءٍ ثُمَّ صبَّه فيه أو بالَ بِقُرْبِهِ فوصَلَ إليه، وأبعَدَ الظَّاهِرِيُّ فيهما وقال: يحرُمُ عليه إذا بالَ فيه ولوْ كانَ الماءُ كثيرًا دونَ غيرِه. وقد أوضَحْتُ فسادَهُ في «شرح العمدة» أيضًا.
          سابعُها: استَدَلَّ به أبو حنيفةَ على تنجيسِ الغديرِ الَّذي يتحرَّكُ طرفُهُ بِتَحَرُّكِ الآخَرِ بوقوعِ النَّجاسةِ فيه؛ فإنَّ الصِّيغةَ صيغةُ عمومٍ، وهو عندَ الشَّافعيَّةِ وغيرِهم مخصوصٌ والنَّهْيُ محمولٌ على ما دونَ القُلَّتينِ جَمْعًا بين الحديثَينِ وهما هذا الحديثُ وحديثُ: ((إذا بَلَغ الماءُ قُلَّتينِ لَمْ يَحْمِل خَبَثًا)) وقد صحَّحهُ ابنُ مَعينٍ وابنُ حِبَّانَ وابنُ خُزيمةَ والحاكِمُ وغيرُهم.
          وعندَ أحمدَ أنَّ بولَ الآدَمِيِّ وما في معناه يُنَجِّسُ الماءَ وإنْ كانَ كثيرًا اللهُمَّ إلا أن يكونَ كثيرًا جِدًّا كالمصانِعِ الَّتي بطريقِ مكَّةَ، وغيرُه مِن النَّجاساتِ يُعتبَرُ فيه القُلَّتانِ. وكأنَّه رأى أنَّ الخَبَثَ المذكورَ في حديثِ القُلَّتينِ عامٌّ بالنِّسبَةِ إلى الأنجاسِ الواقعةِ في الماءِ الكثيرِ ويَخْرُجُ بولُ الآدَمِيِّ وما في معناهُ مِن جُمْلَةِ النَّجاساتِ الواقعَةِ في القُلَّتَيْنِ بِخُصوصِهِ فيُنَجِّسُ الماءَ دونَ غيرِه مِن النَّجاساتِ، ويُلحَقُ بالبولِ المنصوصِ عليه ما هو في معناهُ.
          ومالكٌ حَمَلَ النَّهْيَ على التَّنزيه مطلقًا لاعتقادِهِ أنَّ الماءَ لا ينجُسُ إلَّا بالتغيُّرِ بالنَّجاسَةِ فلا بُدَّ مِن التَّخصيصِ أو التَّقييدِ.
          ثامنُها: حُرْمةُ الوُضوءِ بالماءِ النَّجِسِ. والتأدُّبُ بالتَّنزُّهِ عن البولِ في الماءِ الرَّاكِدِ لِعُمُومِ الحاجةِ إليه.