التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إسباغ الوضوء

          ░6▒ بَابُ إِسْبَاغِ الوُضُوءِ.
          (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إسْبَاغُ الوَضُوءِ: الإِنْقَاءُ).
          139- حدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عبَّاس، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ الله صلعم مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: (الصَّلَاةُ أَمَامَكَ) فَرَكِبَ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَت الصَّلَاةُ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَت الْعِشَاءُ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا.
          الكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجهُ البُخاريُّ أيضًا في الحجِّ عن ابنِ يوسُفَ عن مالكٍ به [خ¦1672] وعن مُسَدَّدٍ عن حمَّادِ بنِ زيدٍ عن يَحيى / عن موسى به [خ¦1667] وعن قُتيبةَ عن إسماعيلَ بنِ جعفر عن محمَّد بن أبي حَرْمَلةَ عن كُرَيب بنحوِه [خ¦1669] وفي الجهادِ عن ابنِ سَلَامٍ عن يزيدَ بنِ هارونَ عن يَحي عن موسى به [خ¦181] وأخرجه مسلمٌ في المناسكِ مِن طُرُقٍ منها: عن يَحيى بنِ يَحيى عن مالكٍ به.
          ثانِيها: في التَّعريفِ بِرُواتِه:
          وقد سَلَفَ التَّعريفُ بكُرَيبٍ ومالكٍ وعبدِ الله بنِ مَسْلَمة.
          وأمَّا (أُسَامَةَ) فهوُ أبو زيدٍ أسامةُ بنُ زيدِ بنِ حارثةَ بنِ شُرَاحيلَ الكلبيُّ المدَنيُّ الحِبُّ بن الحِبِّ، وكانَ نَقْشُ خاتَمِه حِبُّ رسولِ الله، وكانَ مَولَى النَّبيِّ صلعم وابنَ حاضِنَتِه ومولاتِه أمِّ أيمنَ، أمَّرَهُ رسولُ الله صلعم على جيشٍ فيهم أبو بكرٍ وعمرَ وعمرُه عشرونَ فأقلَّ فلَمْ يَنْفُذْ حتَّى ماتَ. رُوِيَ له مئةُ حديثٍ وثمانيةٌ وعشرونَ حديثًا، اتَّفقَا على خَمْسَةَ عَشَرَ وانفرَدَ البُخاريُّ بحديثينِ ومسلمٌ بحديثينِ، رَوَى عنه عُروةُ وكُرَيبٌ وخَلْقٌ، ماتَ بِوادِي القُرى سنةَ أربعٍ وخمسينَ _على الأصحِّ_ ابنَ خمسٍ وخمسينَ، وذَكَرَ اللهُ أباهُ زيدًا في القرآنِ بِاسْمِهِ.
          فائدةٌ: أسامةُ بنُ زيدٍ ستَّةٌ، هذا أحدُهم، وليسَ في الصَّحابةِ مَن اسمُه أسامةُ بنُ زيدٍ سواهُ، وإنْ كانَ فيهمْ مَن اسمُه أسامةُ _مُختلَفٌ في بعضِهم_ خمسةٌ غيرُه. ثانيهم: تَنُوخِيٌّ رَوَى عنه زيدُ بن أسلَم وغيرُه. ثالثُهم: لَيثِيٌّ رَوَى عن نافِعٍ وغيرِه. رابعُهم: مَدَنيٌّ مولَى عمرَ بنِ الخطَّابِ ضعيفٌ. خامسُهم: كَلْبِيٌّ رَوَى عن زُهيرِ بنِ مُعاويةَ وغيرِه. سادسُهم: شِيرازيٌّ رَوَى عن أبي حامدٍ الفضلِ الجُمَحِيِّ.
          وأما (مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) فهو أبو محمَّدٍ المدَنيُّ موسى بن عُقْبةَ بن أبي عيَّاشَ المدَنِيُّ مولَى الزُّبيرِ بنِ العَوَّامِ، ويُقالُ مَولَى أمِّ خالدٍ زوجَةِ الزُّبَيرِ القُرَشِيِّ أخو محمَّدٍ وإبراهيمَ، وكان إبراهيمُ أكبَرَ مِن مُوسى. رَوَى عن كُرَيبٍ وأمِّ خالدٍ الصَّحابيَّةِ وغيرِهما، وعنه مالكٌ والسُّفيانانِ وغيرُهم، وكان مِن الْمُتْقِنينَ الثِّقَاتِ، ماتَ سنةَ إحدَى وأربعين ومئة، ومغازِيهِ أَصَحُّ المغازِي كما قالَهُ مالكٌ، وليسَ في الكُتُبِ السِّتَّةِ مَن اسمُه مُوسى بن عُقْبة غيرُه.
          الثَّالثُ: هذا الإسنادُ كلُّ رجالِه في «الصَّحيحينِ» وباقِي الكُتُبِ السِّتَّةِ إلَّا القعنبيَّ فإنَّ ابنَ ماجه لم يُخرِّجْ له، وكلُّ رجالِه مَدَنيُّونَ.
          الرَّابعُ: في بيانِ الأماكنِ الواقعَةِ فيه.
          أمَّا (عَرَفَةَ) فهو موضعُ الوقوفِ زاده الله شرفًا، سُمِّيتْ بذلِكَ لأنَّ آدمَ عَرَفَ حواءَ بها فإنَّ اللهَ أهبطَ آدمَ بالهندِ وحوَّاءَ بِجُدَّةَ فتعارَفَا في الموقِفِ، أوْ لأنَّ جبريلَ عرَّفَ إبراهيمَ المناسكَ هناكَ، أو للجِبالِ الَّتي فيها والجبالُ هي الأعرافُ، وكلُّ ناتئٍ فهو عُرْفٌ ومنه عُرف الدِّيكِ، أو لأنَّ النَّاسَ يعْتَرِفُونَ فيها بذنوبِهم ويسألونَ غفرانَها فَتُغْفَرُ. أقوالٌ. والمشهورُ صَرْفُ عَرَفاتٍ.
          و(الشِّعبِ) بِكسْرِ الشِّينِ الطَّريقُ في الجبلِ.
          و(المزدَلِفةَ) بضمِّ الميمِ مِن الازْدِلافِ وهو التقرُّبُ أو الاجتماعُ، ومِن الأوَّلِ قولُه تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90] أي قُرِّبَتْ. ومِن الثَّاني قولُه تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشعراء:64] أي جَمَعْنَاهُم، وكذلِكَ قيل لِمُزدَلِفَةَ جَمْعٌ.
          الخامسُ: في ألفاظِه ومعانيهِ:
          قولُه: (ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الوُضُوءَ) أي لم يكمِلْهُ بلْ توضَّأَ مرَّةً مرَّةً سابِغَةً أو خفَّفَ استعمالَ الماءِ بالنِّسبَةِ إلى غالبِ عاداتِه، ويؤيِّدُه روايةُ إبراهيمَ بن عُقْبةَ عن كُرَيبٍ قال: ((فتوضَّأَ وُضوءًا ليسَ بالبالِغِ)) وفي «صحيحِ مسلمٍ»: ((فتوضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا)).
          وقولُه بعدَه: (فَأَسْبَغَ الوُضُوءَ) أي أكمَلَهُ، ولا خلافَ في هذا أنَّه الوُضوءُ الشَّرعِيُّ، وأمَّا الأوَّلُ فاختُلِف فيه، فقيلَ إنَّه الشَّرعيُّ مرَّةً مرَّةً كما أسلفناهُ، وقيل اللُّغويُّ، أي اقتصرَ على بعضِ الأعضاءِ، وهو بعيدٌ.
          وأبعَدُ منه أنَّ المرادَ به الاستنجاءَ كما قاله عيسى بنُ دينار وجماعةٌ، ومِمَّا يُوَهِّنُهُ روايةُ البُخاريِّ الآتيةُ في باب الرَّجُل يوضِّئُ صاحِبَه ((أنَّه صلعم عَدَلَ إلى الشِّعْبِ فقضى حاجتَه، فجعلْتُ أَصُبُّ الماءَ عليه ويتوضَّأُ)) [خ¦181] ولا يجوزُ أن يصُبَّ أسامةُ عليه إلَّا وَضوءَ الصَّلاةِ لأنَّه كان لا يَقْرُبُ منه أحَدٌ وهو على حاجتِه، وأيضًا فقدْ قالَ أسامةُ عَقِب ذلكَ: الصلاةَ يا رسولَ الله. ومُحالٌ أن يقولَ له: الصَّلاةَ، ولمْ يَتَوَضَّأْ وُضوءَ الصَّلاةِ. وأبعَدَ مَن قال: إنَّما لم يُسبِغْهُ لأنَّه لم يُرِد أن يصلِّيَ به ففَعَلَهُ لِيكونَ مُستصحِبًا للطَّهارَةِ في مسيرِه؛ فإنَّه كانَ في عامَّةِ أحوالِهِ على طُهْرٍ.
          وقال أبو الزِّنَادِ: إنَّما لم يُسبِغْهُ ليَذْكُرَ اللهَ لأنَّهم يُكْثِرون منه عشيَّةَ الدَّفْعِ مِن عَرَفَةَ. وقال غيرُه: إنَّما فَعَلَهُ لإعجالِه الدَّفْعَ إلى المزدَلِفَةِ فأرادَ أن يتوضَّأَ وُضوءًا يرفَعُ به الحدَثَ لأنَّه كانَ صلعم لا يبقَى بغيرِ طهارةٍ، وكذا قال الخطَّابيُّ: إنَّما تَرَكَ إسباغَهُ حتَّى نزلَ الشِّعبَ ليكونَ مستصحِبًا للطَّهارةِ في طريقِه، وتجوَّز فيه لأنَّه لم يُرِدْ أن يُصَلِّيَ به، فلمَّا نَزَلَ وأرادَها أسبَغَهُ.
          وقولُه: (الصَّلاَةُ أَمَامَكَ) أي سُنَّةُ الصَّلاةِ تأخيرُ المغربِ إلى المزدَلِفَةِ لتُجْمَعَ مع العشاءِ. وقال الخطَّابيُّ: المرادُ أنَّ موضِعَ هذه الصَّلاةِ المزدَلِفةُ، وهو أَمامَهُ. قال: وهو تخصيصٌ لعمومِ الأوقاتِ المؤقَّتَةِ للصَّلواتِ الخمْسِ بفِعْلِه صلعم. وفيما قالَهُ مِن التَّخصيصِ نَظَرٌ. ولم يعلَمْ أسامةُ هذه السُنَّةَ لأنَّه صلعم أوَّلُ مَا سَنَّها في حَجَّة الوَداعِ.
          وقولُه: (ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ) كأنَّهم فعلُوا ذلكَ خشيةَ ما يحصُلُ مِنها مِن التَّشويشِ بقيامِها.
          السَّادسُ: في فوائدِهِ:
          الأُولَى: جَمْعُ التَّأخيرِ بمُزدَلِفَةَ وهو إجماعٌ لكنَّهُ عندَ جمهورِ أصحابِنا بسببِ السَّفَرِ، فالْمُزدَلِفِيُّ لا يجمع، وعند أبي حنيفةَ ومالكٍ أنَّه بسبَبِ النُّسُكِ فيَجْمَعُ، وإنَّما يؤخِّرُ إذا لم يَخرجْ وقتُ اختيارِ العشاءِ، فإنْ خافهُ فالأفضلُ التَّقديمُ كما قالَه جماعاتٌ مِن أصحابِنا وسيأتِي بَسْطُهُ في بابِه إن شاء الله.
          الثَّانيةُ: عدمُ وجوبِ الموالاةِ في جَمْعِ التَّأخيرِ فإنَّهُ وَقَعَ الفصْلُ بينهُما بإناخةِ كلِّ إنسانٍ بَعيرَهُ في منزلِه.
          الثَّالثةُ: الإقامةُ لِكلٍّ مِن صَلاتَيِ الجمْعِ، وحكى ابنُ التِّينِ عن ابنِ عمرَ أنَّه يُصلِّي بإقامةٍ واحدةٍ، ويَبعُدُ أن يكونَ المرادُ بالإقامةِ هنا الشُّروعُ فيها وفِعْلُها بأحكامِها.
          الرَّابعةُ: لم يَذكُرْ هنا الأذانَ لها والصَّحيحُ عندَ أصحابِنا أنَّه يؤذِّنُ لِلأُولَى، وبه قالَ أحمدُ وأبو ثَوْرٍ وعبدُ الملِكِ بنُ الماجِشُون المالكيُّ والطَّحاويُّ الحنفِيُّ، وقال مالكٌ: يؤذِّنُ ويُقيمُ للأُولَى ويؤذِّنُ ويُقيمُ للثَّانِيَةِ، وهو مَحْكِيٌّ عن عمرَ وابنِ مَسعودٍ، وقال أبو حنيفةَ وأبو يوسُفَ: أذانٌ وإقامةٌ واحدةٌ، وللشَّافِعِيِّ وأحمدَ قولٌ أنَّه يُصلِّي كلَّ واحدةٍ بإقامةٍ بلا أذانٍ، وهو مَحْكِيٌّ عن القاسمِ بن محمَّدٍ وسالمٍ، وقال الثَّوريُّ: يصلِّيهِمَا جميعًا بإقامةٍ واحدةٍ، وقدْ أسلفناهُ عن ابنِ عمرَ.
          الخامسةُ: أفضلِيَّةُ تأخيرِ المغربِ إلى العشاءِ، قال أصحابُنَا: فلو جَمَعَ بينهُما في وقْتِ المغرِبِ في أرْضِ عرفَاتٍ أو في الطَّريقِ أو في موضِعٍ آخَرَ، أو صلَّى كلَّ صلاةٍ / في وقتِها جازَ جميعُ ذلكَ وإنْ خالفَ الأفضَلَ، هذا مذهبُنا وبه قالَ جماعةٌ مِن الصَّحابَةِ والتَّابِعينَ، وقاله الأوزاعيُّ وأبو يوسُفَ وأشهبُ وفقهاءُ أصحابِ الحديثِ. وقال أبو حنيفةَ وغيرُه مِن الكوفِيِّينَ: يُشْتَرَطُ أن يصلِّيَهُما بالمزدَلِفَةِ ولا يجوزُ قبْلَها. وقال مالكٌ: لا يجوزُ أن يصلِّيَهُمَا قَبْلَها إلَّا مَن به أو بِدَابَّتِه عُذْرٌ فله أن يصلِّيَهُمَا قَبْلَها بشرْطِ كونِه بعدَ مَغيبِ الشَّفَقِ.
          وحَكَى ابنُ التِّينِ عن «المدوَّنَةِ» أنَّه يُعيدُ إذا صلَّى المغربَ قَبْلَ أن يأتِيَ المزدَلِفةَ أو جَمَعَ بينَها وبينَ العِشاءِ بعْدَ مَغيبِ الشَّفَقِ وقبْلَ أنْ يأتِيَها، وعن أشهبَ المنْعُ إلَّا أنْ يكونَ صلَّى قبْلَ مَغيبِ الشَّفَقِ فيُعيدُ العِشاءَ بعدَها أَبَدًا، وبِئْسَ ما صَنَعَ. وقيلَ: يُعيدُ العِشاءَ الآخِرَةَ فقطْ، وقالَ في «المعُونَةِ»: إنْ صلَّى المغرِبَ بعَرَفَةَ في وقتِها فقدْ تَرَكَ الاختيارَ والسُّنَّةَ وتُجزِئُهُ خلافًا لأبي حنيفةَ. قالَ أشهبُ: وإذا أسرعَ فوصلَ المزدَلِفَةَ قبْلَ مَغيبِ الشَّفقِ جَمَعَ وإنْ قضَى الصَّلاتَينِ قَبْلَ مَغيبِه، وخالفَهُ ابنُ القاسمِ فقالَ: لا يَجمَعُ حتَّى يَغِيبَ.
          السَّادسَةُ: تنبيهُ المفضولِ الفاضلَ إذا خافَ عليه النِّسيانَ لِمَا كانَ فيه مِن الشُّغْلِ لقولِ أسامةَ: (الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللهِ).
          السَّابعةُ: في قولِه: (فتوضَّأَ فأَسْبَغَ الوُضُوءَ) أنَّ الوُضوءَ عبادةٌ وإنْ لم يُصَلِّ به _يعني بالأوَّلِ_ نبَّهَ عليها الخطَّابيُّ، وقد قالَ بعضُهم: مَن توضَّأَ ثُم أرادَ أنْ يُجدِّدَ وُضوءَهُ قَبْلَ أنْ يُصَلِّيَ ليسَ له ذلكَ لأنَّه لم يوقِعْ به عبادةً، ويكونُ كمَن زادَ على ثلاثٍ في وُضوءٍ واحدٍ، وهو الأصحُّ عندَ أصحابِنَا، ولا يُسَنُّ تجديدُه إلَّا إذا صلَّى بالأوَّلِ صلاةً فرضًا كانتْ أو نَفْلًا.
          الثَّامنةُ: ظاهرُ الحديثِ أنَّهم صَلَّوْا قبْلَ حَطِّ رحالِهم، وقدْ جاءَ مصرَّحًا به في روايةٍ أُخرَى في «الصَّحيحِ» ووافَقَ مالكٌ في الأمرِ الخَفِيفِ وقال في الْمَحامِل والزَّوامِل: يَبدَأُ بالصَّلاةِ قبلَها. وقال أشهبُ: لهُ أنْ يحطَّ رَحْلَهُ قبْلَ أن يصلِّيَ، وبعَدَ المغربِ أحبُّ إليَّ ما لمْ تكُنْ دابَّتُه مُعَقَّلَةً، ولا يَتَعَشَّى قبْلَ المغربِ وإنْ خفَّفَ عشاءَه ولا يتعشَّى بعدَها وإنْ كانَ عشاؤُه خفيفًا، وإنْ طالَ فبَعْدَ العِشاءِ أحَبُّ إلَيَّ.
          التَّاسعةُ: تَرْكُ النَّافِلَةِ في السَّفَرِ، كذا استنبَطَهُ المهلَّبُ مِن قولِه: (وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا) ولِذلكَ قالَ ابنُ عمرَ: لو كنتُ مُسبِّحًا لأتمَمْتُ. وقالَ غيرُه: لا دِلالةَ فيه لأنَّ الوقتَ بينَ الصَّلاتينِ لا يتَّسِعُ لذلك، أَلَا ترَى أنَّ بعضَهم قالَ: لا يَحُطُّونَ رَواحِلَهُم تلكَ اللَّيلَةَ حتَّى يَجمَعُوا، ومِنهُم مَن قال: تُحَطُّ بَعْدَ الأُولَى معَ ما في تَرْكِ الرَّواحِلِ بأوقَارِها ما نُهِيَ عنه مِن تعذيبِها. ولم يتابَع ابنُ عمر على قولِه، والفُقهاءُ متَّفقونَ على اختيارِ التَّنَفُّلِ في السَّفر. قال ابنُ بطَّالٍ: وقد تنفَّلَ رسولُ الله صلعم راجِلًا وراكبًا.
          العاشرةُ: جوازُ التَّنفُّلِ بينَ صلاتَيِ الجَمْعِ، كذا استدلَّ به القُرطُبيُّ في «مُفهِمِه» قال: وهو قولُ ابنِ وَهْبٍ، قال: وخالفَهُ بقيَّةُ أصحابِنا فمنَعُوهُ. قلتُ: وهو جائزٌ عندَنا في جمْعِ التَّأخيرِ مُمتَنِعٌ في جَمْعِ التَّقديمِ، والحديثُ ناصٌّ على أنَّه لم يُصَلِّ بينَهُما، ولعلَّ القُرْطُبِيَّ أخذَهُ مِن إناخَةِ البعيرِ بينَهُمَا.
          الحاديةَ عشْرَةَ: الدَّفْعُ مِن عرفَةَ إلى مزدَلِفةَ راكبًا.
          الثَّانيةَ عشْرَةَ: نقْلُ أفعالِه والاعتناءُ بها ليُتَّبَعَ.
          الثَّالثَةَ عشْرَةَ: الاستنجاءُ مِن البولِ لغيرِ صلاةٍ تنظُّفًا وقطْعًا لمادَّتِه، قالَه الدَّاوُدِيُّ وكأنَّه حَمَلَ الوُضوءَ الأَوَّلَ فيه على الاستنجاءِ وليسَ بِجَيِّدٍ لِمَا أسلفْنَاهُ.
          الرَّابِعَةَ عشْرَةَ: تَرْكُ إسباغِ الوُضوءِ عندَ البَوْلِ إذا لمْ تَجِئِ الصَّلاةُ، قاله أيضًا وفيه نَظَرٌ أيضًا.
          الخامسةَ عشْرَةَ: تخصيصُ العُمومِ، قاله الخطَّابيُّ وقد سَلَفَ ما فيهِ.
          السَّادسةَ عشْرَةَ: قال الخطَّابيُّ أيضًا: فيه دِلالةٌ أيضًا على أنَّه لا يجوزُ أن يُصلِّيَها الحاجُّ إذا أفاضَ مِن عرفَةَ حتَّى يبلُغَها ويجمَعَ بينهُمَا، ولو أجزأَ غيرُ ذلكَ لَمَا أخَّرَها صلعم عن وقتِها المؤقَّتِ لها في سائِرِ الأيَّامِ. وفيما ذَكَرَهُ نظُرٌ أيضًا، فإنَّه إنَّما أخَّرَها لأجْلِ الجَمْعِ.
          السَّابعةَ عشْرَةَ: قال أيضًا: استدلَّ به الشَّافِعِيُّ على أنَّ الفوائتَ لا يؤذَّنُ لها لكنْ يُقَام، وكأنَّ وَجْهَهُ أنَّها تُشبِهُ الفائتَةَ، وإلَّا فإذا أخَّرَها فهِيَ أداءٌ على الصَّوابِ لِأَجْلِ العُذْرِ المرخِّصِ.
          الثَّامنةَ عشْرَةَ: قال فيه أيضًا: إنَّ يسيرَ العمَلِ إذا تخلَّلَ بينَ الصَّلاتينِ لا يقْطَعُ نظْمَ الجمْعِ بينَهُما لِمَا ذُكِرَ مِن إناخةِ كلِّ واحدٍ بعيرَه بينهُمَا، ولكنْ لا يتكلَّمُ بينَ الصَّلاتينِ، وما ذَكَرَهُ ماشٍ على مَن يَشترِطُ الموالاةَ في جَمْعِ التَّأخيرِ، والأصحُّ عندَ أصحابِنا خلافُه.
          التَّاسعةَ عشْرَةَ: قال: في وُضُوئِه الأَوَّلِ لِغيرِ الصَّلاةِ دِلالةٌ على أنَّ الوُضوءَ نفْسَهُ عبادةٌ وقُرْبةٌ، وإنْ لم يُصَلِّ به، وكان صلعم يُقدِّمُ الطَّهارةَ إذا أَوَى إلى فراشِهِ لِيكونَ مَبِيتُه على طُهْرٍ.
          العشرونَ: قالَ المهلَّبُ: فيه اشتراكُ وقتِ المغربِ والعشاءِ وأنَّ وقتَهُما واحدٌ، وقال غيرُه: المرادُ بالنِّسبَةِ إلى الجمْعِ.