التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الاستنجاء بالماء

          ░15▒ بَابُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ.
          150- حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي مُعَاذٍ، وَاسْمُهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، أَجِيءُ أَنَا وَغُلاَمٌ، مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ، يَعْنِي يَسْتَنْجِي بِهِ).
          الكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          ولْنُقدِّم عليها أنَّ الاستنجاءَ مأخوذٌ مِن النَّجْوِ وهو القَطْعُ، وقيل مِن الارتفاعِ، وقيل مِن طَلَبِ النَّجاةِ وهو الخلاصُ، حكاها القاضي عياضٌ في «تنبيهاتِه».
          الأوَّلُ: في التَّعريفِ بِرواته:
          وقد سَلَفَ التَّعريفُ بهم خلا (عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ) وهو بصريٌّ تابعيٌّ مولى أنسٍ، وقيلَ مولَى عِمْرانَ بن حُصَين، ماتَ بعدَ الثَّلاثينَ ومئة وكان يرَى القَدَرَ. ومِن طُرَفِ هذا الإسنادِ أنَّهم كلُّهُم بصريُّونَ وكلُّهم مِن فُرسانِ «الصحيحين» وباقِي السِّتَّةِ إلَّا عطاءً فلم يخرِّجْ له التِّرمذِيُّ.
          الثَّاني: في بيانِ ألفاظِه:
          الغُلَامُ هو الَّذي طرَّ شارِبُه، وقيل هو مِن حين يولَدُ إلى أن يشبَّ، وقد أوضحْتُه بمتعلِّقاتِه في «شرح العمدة» فراجعْهُ منه. والإِدَاوَةُ بكسْرِ الهمزةِ إناءٌ صغيرٌ مِن جِلْدٍ يُتَّخَذُ للماءِ كالسَّطِيحَةِ ونحوِها، والجمْعُ: أَدَاوَى، قال الجوهريُّ: الإداوةُ المِطْهَرةُ والجمْعُ الأَدَاوَى. والحَاجَةُ هنا الغائطُ أو البول. وهذا الغُلامُ مِن الأنصارِ كما سيأتي.
          الثَّالثُ: في فوائدِه:
          الأُولى: خدمةُ الصَّالحينَ وأهلِ الفضْلِ والتَّبرُّكُ بذلكَ، وتَفَقُّدُ حاجاتِهم خُصوصًا المتعلِّقَةُ بالطَّهارةِ.
          الثَّانيةُ: استخدامُ الرَّجُلِ الفاضلِ بعضَ أتبَاعِه الأحرارَ خُصوصًا إذا أُرصِدُوا لذلك، والاستعانةُ في مِثْلِ هذا فيحصُلُ الشَّرفُ لهم بذلكَ.
          وقد صرَّحَ الرُّوِيَانيُّ مِن أصحابِنا بأنَّه يجوزُ أن يُعِيرَ ولَدَهُ الصَّغيرَ لِيخدمَ مَن يتعلَّمُ منه، وخالفَ صاحبُ «العدَّة» فقال: ليس للأبِ أن يُعيرَ وَلَدَهُ الصَّغيرَ لمنْ يخدمُه لأنَّ ذلكَ هبةٌ لمنافعِه فأشبَه إعارةَ مالِه، وأوَّلَهُ النَّوويُّ في «الرَّوضةِ» فقال: هذا محمولٌ على خدمةٍ تقابَلُ بأُجرةٍ أمَّا ما كان محتَقَرًا لا يُقابَلُ بها فالظَّاهِرُ والَّذي تقتضِيهِ أفعالُ السَّلَفِ ألَّا مَنْعَ منه إذا لم يَضُرَّ بالصَّبيِّ. وقال غيره مِن المتأخِّرينَ: ينبغي تقييدُ المنعِ بما إذا انتفتِ المصلحةُ، أمَّا إذا وُجِدَتْ كما لو قال لولدِه الصَّغيرِ: اخدم هذا الرَّجُلَ في كذا لِيَتَمَرَّنَ على التَّواضُعِ ومَكارِمِ الأخلاقِ فلا مَنْعَ منه وهو حُسْنٌ بالغٌ.
          الثَّالثةُ: التَّباعُدُ لقضاءِ الحاجةِ عن النَّاسِ، وقد اشتهرَ ذلكَ مِن فِعْلِه صلعم.
          الرَّابعةُ: جوازُ الاستعانةِ في أسبابِ الوُضوءِ.
          الخامسةُ: جوازُ الاستنجاءِ بالماءِ كما ترجمَ عليه البُخاريُّ، واعترضهُ الأَصِيليُّ فقال: استدلالُه به ليس بالبَيِّنِ لأنَّ قولَه: (يَسْتَنْجِي بِهِ) ليسَ مِن قولِ أنسٍ إنَّما هو مِن قولِ أبي الوليدِ، وقد رواهُ سليمانُ بنُ حربٍ عن شُعبةَ لمْ يذكُرْ (يَسْتَنْجِي بِهِ) كما سيأتي [خ¦151] فيحتملُ أنْ يكونَ الماءُ لطُهورِهِ أو لوُضوئِه.
          وقال أبو عبدِ الله بنُ أبي صُفرةَ: قد تابعَ أبا الوليدِ النَّضْرُ وشَاذَان عن شُعبةَ، وقالا: ((يَسْتَنْجِي بالماءِ)). قال: وتواتَرَتِ الآثارُ عن أبي هُريرةَ وأسامةَ وغيرِهما مِن الصَّحابةِ على الحِجارةِ. وقال ابنُ التِّينِ في «شرحه» مثلَه، وزادَ عن أبي عبدِ الملك أنَّه قولُ أبي مُعاذٍ الرَّاوي عن أنسٍ، قال: وذلكَ لأنَّهُ لم يصحَّ أنَّه صلعم استنجَى بالماءِ، وكذا نُقِل عن أحمد أنَّه لم يَصِحَّ به حديثٌ. وأقولُ: قد ذَكَرَ البخاريُّ مِن غيرِ طريقِ أبي الوليد: ((يَسْتَنْجِي بالماءِ)) كما سيأتي بعْدُ مِن طريق غُنْدَرَ والنَّضْرِ وشَاذَان [خ¦152] [خ¦500] وذَكَرَهُ أيضًا في بابِ غَسْلِ البولِ مِن غيرِ طريقِه بلفْظِ: ((كان صلعم إذا تبرَّزَ لحاجَتِه أتيْتُهُ بماءٍ فتغسَّلَ به)) [خ¦217] وسيأتي.
          وفي لفظٍ لمسلمٍ: ((دخلَ حائطًا وتَبِعَهُ غلامٌ معهُ مِيْضَأَةٌ فوضعَها عندَ رأسِهِ، فَقَضى رسولُ الله صلعم فخرجَ علينا وقد استنجى بالماء)) وسَلَفَ قريبًا حديثُ ابنِ عبَّاسٍ في وضْعِه الماءَ له ودعائِه صلعم له، وترجَمَ عليه: وضْعُ الماء عندَ الخَلاءِ [خ¦143] وذكَرْنَا هناك جملةً مِن الأحاديثِ الصَّحيحةِ فيه.
          وفي «صحيحِ ابنِ خُزيمة» مِن حديثِ إبراهيمَ بنِ جريرٍ عن أبيه ((أنَّ النَّبيَّ صلعم دَخَلَ الغَيضَةَ فقضَى حاجتَه، فأتاهُ جريرٌ بإِدَاوةٍ مِن ماءٍ فاستنجَى بها ومسحَ يدَهُ بالتُّرابِ)).
          وفي «صحيحِ مسلمٍ» لَمَّا عدَّ الفِطرةَ عشرةً، عدَّ منها انتقاصَ الماء، وفُسِّرَ بالاستنجاءِ. وزعَمَ ابنُ بطَّالٍ أنَّ حُذَيفةَ بنَ اليمان وسعيدَ بنَ المسيِّب كَرِهَا الاستنجاءَ بالماءِ، وكان المهاجرونَ يستحبُّونَ الاستنجاءَ بالأحجارِ، والأنصارُ بالماءِ.
          وفي «المصنَّفِ» أيضًا عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ وعمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ الله بنِ الزُّبيرِ ومُجَمِّع بن يزيد وعروةِ بن الزُّبير والحسنِ بن أبي الحسنِ وعطاءٍ شيءٌ مِن ذلكَ، والإجماعُ قاضٍ على قولِهم، وكذا امتنانُ البارِئِ جلَّ جلالُه في كتابِهِ بالتَّطهيرِ به ولأنَّه أبلَغُ في إزالةِ العَينِ.
          وفي «شرح الموطَّأ» لابنَ حبيبٍ: حدَّثَنَا أسدُ بنُ موسى وغيرُه عن السُّدِّيِّ بنِ يَحيى عن أبَانِ بن أبي عيَّاشٍ أنَّه صلعم قال: ((اسْتَنْجُوا بِالْمَاءِ فإنَّه أَطْهَرُ وأَطْيَبُ)) وأَبَان هذا متروكٌ.
          وأُجِيْبَ عن قولِ سعيدِ بن المسيِّب _وقد سُئِلَ عن الاستنجاءِ بالماءِ_ أنَّه وُضوءُ النِّساءِ أنَّه لعلَّ ذلكَ في مقابَلَةِ غُلُوِّ مَن أنكرَ الاستنجاءَ بالأحجارِ، وبالغَ في إنكارِه بهذه الصِّيغةِ ليَمنَعَهُ مِن الغُلُوِّ. وحمَلَهُ ابنُ نافعٍ على أنَّه في حقِّ النِّساءِ وأمَّا الرجالُ فيَجمعونَ بينَهُ وبين الأحجارِ، حكاه الباجيُّ عنه.
          قال القاضي: والعِلَّةُ عندَ سعيدٍ كونُه وُضوءَ النِّساءِ، معناه أنَّ الاستنجاءَ في حقِّهنَّ بالحجارةِ مُتَعذِّرٌ. قال الخطَّابيُّ: وزَعَمَ بعضُ المتأخِّرينَ أنَّ الماءَ مطعومٌ، فلهذا كَرِهَ الاستنجاء به سعيدٌ وموافقُوهُ، وهذا قولٌ باطلٌ مُنَابِذٌ للأحاديثِ الصَّحيحةِ.
          وشذَّ ابنُ حَبيبٍ فقال: لا يجوزُ الاستنجاءُ بالأحجارِ مع وُجودِ الماءِ، وحكاهُ القاضي أبو الطَّيِّبِ عن الزَّيدِيَّةِ / والشِّيعَةِ وغيرِهِما، والسُّنَّةُ قاضيةٌ عليهم استعمَلَ الشَّارعُ وأبو هُريرةَ الأحجارَ معه، ومعه إِدَاوةٌ مِن ماءٍ.
          ومذهبُ جُمهور السَّلفِ والخَلَفِ والَّذي أجمعَ عليه أهلُ الفتوَى مِن أهلِ الأمصارِ أنَّ الأفضلَ أن يجمَعَ بينَ الماءِ والحَجَرِ فيُقَدِّمُ الحجَرَ أوَّلًا ثُمَّ يَستعمِلُ الماءَ، فتَخِفُّ النجاسةُ وتَقِلُّ مُباشرَتُها بيَدِه ويكونُ أبلغ في النَّظافة، فإنْ أرادَ الاقتصارَ على أحدِهِما فالماءُ أفضلُ لكونِه يُزيلُ عينَ النَّجاسةِ وأَثَرَها، والحجَرُ يُزيلُ العيْنَ دُونَ الأثَرِ لكنَّهُ مَعفُوٌّ عنه في حقِّ نفْسِه وتَصِحُّ الصَّلاةُ معهُ كسائِرِ النَّجاساتِ المعفُوِّ عنها.
          الفائدةُ السَّادسةُ: اتِّخاذُ آنيةِ الوُضوءِ كالإِدَاوةِ ونحوِها، وحمْلُ الماءِ معهُ إلى الكَنِيفِ.