التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة

          ░7▒ بَابُ غَسْلِ الوَجْهِ بِاليَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ.
          140- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخُزَاعِيُّ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ بِلاَلٍ _يَعْنِي سُلَيْمَانَ_ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الأُخْرَى، فَغَسَلَ بِهَا وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ اليُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ اليُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ اليُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً أُخْرَى، فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ _يَعْنِي اليُسْرَى_ ثُمَّ قَالَ: (هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلعم يَتَوَضَّأُ).
          الكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجهُ البُخاريُّ منفردًا به عن مسلمٍ، ولم يُخرِجْ مسلمٌ عن ابن عبَّاسٍ في صفةِ الوُضوءِ شيئًا.
          ثانِيها: في التَّعريفِ بِرواتِه:
          وقد سَلَفَ التَّعريفُ بابنِ عبَّاسٍ وعطاءٍ وزيدٍ. وأمَّا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ فهو أبو محمَّدٍ مولى آلِ أبي بَكْرٍ، رَوَى عن عبدِ الله بنِ دينارٍ وغيرِه، وعنه ابنُه أيوبُ ولُوَين وغيرُهما، وكان برْبَرِيًّا جميلًا حَسَنَ الهيئةِ عاقِلًا مُفْتيًا ثِقَةً إمامًا وَوَلِيَ خَرَاجَ المدينة، ماتَ سنة اثنتينِ وسبعينَ ومئة، وقيل: سنةَ سبعٍ وسبعينَ، وقد سَلَفَ أيضًا في بابِ أُمورِ الإيمانِ.
          وأمَّا (أَبُو سَلَمَةَ) منصورُ بن سلمة الخزاعيُّ البغداديُّ الحافظ، روى عن مالك وغيره، وعنه الصَّاغانيُّ وغيره، / مات سنة سبع أو تسع ومائتين، وقيل: سنة عشر.
          وأمَّا (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) فهو أبو يَحيى الحافظُ صاعقةٌ، لُقِّب بذلكَ لحفْظِهِ، رَوَى عن يزيدِ بنِ هارونَ ورَوْحٍ وطبَقَتِهِما، وعنه البُخاريُّ وأبو داودَ والتِّرمِذِيُّ والنَّسائيُّ وابنُ صاعدٍ والمحامليُّ وخَلْقٌ، وكان بزَّازًا، ماتَ سنةَ خمسٍ وخمسين ومئتين.
          ثالثُها: هذا الحديثُ ممَّا شاهدَهُ ابنُ عبَّاسٍ مِن رسولِ الله صلعم وهي معدودةٌ. قال الدَّاوُدِيُّ: الَّذي صحَّ ممَّا سَمِعَ مِن النَّبيِّ صلعم اثْنَا عَشَرَ حديثًا. وحكى غيرُه عن غُنْدَر عشرةُ أحاديثَ، وعن يَحيى القطَّان وأبي داودَ تسعة.
          ووقَعَ في «المستصفى» للغزاليِّ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ مع كثْرَةِ رِوايتِه قيل إنَّه لم يسمعْ مِن النَّبيِّ صلعم إلَّا أربعةَ أحاديثَ لِصِغَرِ سِنِّه، وصرَّح بذلك في حديثِ: ((إنَّما الرِّبَا في النَّسِيئة)) وقال: حدَّثني به أسامةُ بنُ زيدٍ، ولَمَّا رَوَى حديثَ قَطْعِ التَّلبِيَةِ حينَ رَمَى جمرَةَ العَقَبةِ قال: حدَّثني به أخي الفضْلُ.
          رابعُها: في ألفاظِه:
          معنى: (أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الأُخْرَى) جَعَلَ الماءَ الَّذي في يدِه في يديْهِ جميعًا فإنَّه أمكَنُ في الغَسْلِ.
          وقولُه: (فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ اليُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا) أي صبَّهُ قليلًا قليلًا حتى صارَ غسلًا.
          وقولُه: (فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ _يَعْنِي اليُسْرَى_) هو بغينٍ معجمَةٍ ثُمَّ سينٍ مهمَلةٍ، كذا رأيناهُ في الأصولِ، وقال ابنُ التِّينِ: رُوِيَناهُ بالعين غير معجَمَةٍ، ولعلَّهُ عدَّ الرِّجْلين بمنزِلَةِ العضوِ الواحِدِ فكأنَّهُ كرَّرَ غَسْلَهُ؛ لأنَّ العَلَّ هو الشُّرْبُ الثَّاني. ثمَّ قال: وقال أبو الحسن: أُراه (فَغَسَلَ) فسقطَتِ السِّينُ. قلتُ: وهذا كلُّهُ غريبٌ والصَّوابُ ما أسلَفْنَاهُ.
          خامسُها: في فوائدِهِ:
          الأُولى: أنَّ الوُضوءَ مرَّة مرَّة، وهو إجماعٌ كما أسلفْنَاهُ في أوائِلِ الوُضوء، وشذَّ مَن قال: فرْضُ مغسولِ الوُضوءِ التَّثليثُ، وهذه القَوْلَةُ حكاها ابنُ التِّينِ هنا وأسْلَفْنا حكايَتَها عن غيرِه في الموضِعِ المشَارِ إليه.
          الثَّانية: الجمْعُ بين المضمضةِ والاستنشاقِ بغَرفةٍ وهو أفضلُ مِن الفصلِ، وسيأتي في حديثِ عبدِ الله بن زيدٍ أنَّه جمَعَ بينهُما ثلاثَ مرَّاتٍ مِن غَرْفةٍ واحدةٍ، وهُوَ الَّذي صحَّتْ به الأحاديثُ. وحديثُ الفصْلِ أخرجهُ أبو داودَ في «سُننِه» ولا يصحُّ.
          الثَّالثةُ: البداءةُ بالميامنِ وهو سنَّةٌ بالإجماعِ كما نقلهُ ابنُ المنذِرِ وغيرُه، ومَن نقلَ خلافَه فقد غلِطَ. ثُمَّ هذا بالنِّسبةِ إلى اليدِ والرِّجْلِ أمَّا الخدَّانِ والكفَّانِ فيُطَهَّران دَفعةً واحدةً، وكذا الأُذُنانِ على الأصحِّ عند الشَّافِعِيَّةِ.
          الرَّابعةُ: أخْذُ الماءِ للوجْهِ باليدِ، وفي روايةٍ للبُخاريِّ ومسلمٍ في حديثِ عبدِ الله بن زيدٍ: ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَه فَغَسلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا. وفي روايةٍ للبُخاريِّ: ثُمَّ أدخلَ يديْهِ. بالتَّثنيةِ، وهُما وجهان للشَّافِعِيَّةِ، وجمهورُهم عَلَى الثَّانِي. وقال زاهر السرخسيُّ: إنَّه يغرِفُ بكفِّهِ اليُمنى ويضعُ ظهْرَها على بَطْنِ كَفِّهِ اليُسرَى، ويَصُبُّهُ مِن أعلَى جبْهَتِهِ، وحديثُ البابِ قدْ يَدُلُّ له.
          الخامسةُ: قال ابنُ بطَّالٍ فيه أنَّ الماءَ المستعملَ في الوُضوءِ طاهرٌ مطهِّرٌ، وهو قولُ مالكٍ والثَّوريِّ، قال: والحُجَّةُ لذلك أنَّ الأعضاءَ كلَّها إذا غُسِلَتْ مرَّةً مرَّةً فإنَّ الماءَ إذا لاقَى أوَّلَ جُزءٍ مِن أجزاءِ العُضوِ فقد صارَ مستعمَلًا ثُمَّ يُمِرُّه على كلِّ جُزْءٍ بعدَهُ وهو مستعمَلٌ فيُجزئُهُ، فلو كانَ الماءُ المستعمَلُ لا يجوزُ لم يَجُزِ الوُضوءُ مرَّةً مرَّةً، ولَمَّا أجمعوا أنَّه جائزٌ استعمالُه في العُضوِ الواحِدِ كان في سائرِ الأعضاءِ كذلكَ، وفيما قاله نظرٌ لأنَّ الماء إنَّما يُحكَمُ له بالاستعمالِ بعدَ انفصالِه، ومادامَ متردِّدًا على العُضوِ لا يَثبُتُ له حُكْمُ الاستعمالِ.
          تنبيه: لمْ يُذكَرْ في هذا الحديثِ أخْذُ الماءِ للرَّأسِ فقال بعضُهم فيه: مَسَحَ الرَّأسَ بفضْلِ الذِّراعِ. وفي «سُنن أبي داودَ» ((أنه صلعم مَسَحَ رأسَهُ مِن فضْلِ ماءٍ كانَ في يدِهِ)) وهذا قولُ الأوزاعيِّ والحَسَنِ وعُرْوةَ، وقال الشَّافعيُّ ومالكٌ: لا يُجزئُه أن يمسحَ بفضْلِ ذراعَيْهِ ولا لحيَتِهِ، وأجازَهُ ابنُ الماجِشُون في بَلَلِ اللِّحْيَةِ إذا نَفَذَ منه الماءُ، وقال القاضي عبدُ الوَّهاب: يُشبِهُ أن يكونَ قولُ مالكٍ لا يُجزئُهُ عبارةً عن شِدَّةِ الكراهِيَةِ.