التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الوضوء بالمد

          ░47▒ بَابُ الوُضُوءِ بِالْمُدِّ:
          201- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، حَدَّثَنِي ابْنُ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يَقُولُ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم يَغْتَسِلُ _أَوْ كَانَ يَغْسِلُ_ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ).
          الكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجه مسلمٌ أيضًا وأبو داودَ والنَّسائيُّ.
          ثانيها: (مِسْعَرٌ) هو ابن كِدَامٍ الكوفيُّ، ماتَ بعدَ الخمسين ومئة، وليس في «الصَّحيحين» سواه. وفي أبي داودَ مِسْعَرُ بن حبيبٍ الجَرميُّ الثِّقَةُ.
          و(ابْنُ جَبْرٍ) هو عبدُ الله بن عبدِ الله بن جَبْرٍ _وقيل جابِرٍ_ بنِ عَتِيكٍ الأنْصَارِيُّ، وقال البخاريُّ في «تاريخِه»: لا يصحُّ جَبْرٌ، إنَّما هو جابرٌ، كذا قال وقد سَلَفَ في إسناده جَبْرٌ. وقال ابن مَنْجَوَيه: أهلُ المدينةِ يقولون جابرٌ والعراقيُّونَ يقولونَ: جَبْرٌ، ولا يصحُّ جَبْرٌ إنَّما هو جابِرٌ. قال أبو داودَ: ورواه سُفيانُ عن عبدِ الله بن عيسى حدَّثَني جَبْرُ بنُ عبدِ الله، فقَلَبَهُ.
          ثالثُها: عند أبي داودَ مِن طريق عبدِ الله بنِ عيسى عن عبدِ الله بن جَبْرٍ عن أنسٍ: ((كانَ يتوضَّأ بإِناءٍ يَسَعُ رِطلين ويَغْتَسِل بالصَّاعِ)) وعند مسلمٍ: ((يَتَوَضَّأُ بِمَكُّوكٍ ويَغْتَسِل بخمسِ مَكَاكِيَّ)) وفي لفظٍ: ((مَكَاكِيكَ)) وللبخاريِّ مِن حديث عائشةَ: ((نَحْوٌ مِن صَاعٍ)) [خ¦251] وفي لفظٍ: ((مِن قَدَحٍ يُقال له الفَرَقُ)) أي بفتْحِ الرَّاءِ، وهو أفصحُ مِن سكونِها. وقيل: بالفَتْحِ ثلاثةُ آصُعٍ أو نحوُها وبالسُّكونِ مئةٌ وعشرون رطلًا.
          رابعُها: الصَّاعُ مكيالٌ يَسَعُ أربعةَ أمدادٍ يُذكَّر ويُؤنَّثُ. والْمُدُّ رِطْلٌ وثُلُثٌ وعندَ أهلِ العراقِ رِطلانِ، وفيه حديثٌ عن أنسٍ، وقال به بعضُ أصحابِنا في مُدِّ الوضوء دون مُدِّ الزَّكاةِ.
          فائدةٌ: يُطلَقُ الصَّاعُ أيضًا على المطمَئِنِّ مِن الأرضِ وعلى وجهِ الأرضِ.
          خامسُها: قولُه: (كَانَ يَغْتَسِلُ أَوْ يَغْسِلُ) الظَّاهِرُ أنَّ هذا الشَّكَّ مِن البُخاريِّ، لأنَّ الطُرُقَ إلى ابنِ جَبْرٍ ليسَ فيها ذلكَ. وقد رواه مسلمٌ عن قُتيبةَ عن وكيعٍ عن مِسْعَرٍ، وعن أبي نُعَيم عبدِ الله بن محمَّدٍ الطحَّانِ وغيرِه، ويجوزُ أن يكونَ رواه أبو نُعَيمٌ للبُخاريِّ على الشَّكِّ ولغيرِه بدونِه.
          سادسُها: الإجماعُ قائمٌ على أنَّ ماءَ الوُضوء والغُسلِ غيرُ مقدَّرٍ بل يكفي فيه القليلُ والكثيرُ إذا أسبَغَ وعَمَّ. قال الشَّافعيُّ: وقد يَرْفُقُ الفقيهُ بالقليلِ فيكفِي، ويَخْرِقُ الأخرَقُ بالكثيرِ فلا يكفي. واستحَبَّ العلماءُ ألَّا يُنقَصَ في الغُسل والوُضوءِ عمَّا ذُكِرَ في الحديثِ، وأبعَدَ بعضُ المالكيَّةِ فقال: لا يُجزِئ أقلُّ مِن ذلكَ، حُكِيَ عن ابنِ شعبانَ القُرْطِيِّ. وعن محمَّدِ بنِ الحسَنِ أنَّ المغتَسِلَ لا يُمكِنُ أن يَعُمَّ جسَدَهُ بأقلَّ مِن مُدٍّ.
          وتصرَّفَ الشَّيخُ عزُّ الدِّين بن عبدِ السَّلامِ فجعلَ للمتوضِّئِ والمغتَسِلِ ثلاثةَ أحوالٍ:
          أحدُها: أن يكونَ معتدِلَ الخَلْقِ كاعتدالِ خَلْقِه صلعم فيقتدي به في اجتنابِ التَنَقُّصِ عن الْمُدِّ والصَّاعِ.
          الثَّانيةُ: أن يكون ضئيلًا ونحيفَ الخَلْقِ بحيث لا يُعادِلُ جسدُه جسدَه صلعم فيُستحَبُّ له أن يستعمِلَ مِن الماء ما يكونُ نِسْبَتُه إلى جسدِه كنِسْبَةِ الْمُدِّ والصَّاعِ إلى جسدِه صلعم.
          الثَّالثةُ: أن يكونَ متفاحِشَ الخَلْقِ طُولًا وعَرْضًا وعِظَمَ البَطْنِ وفَخَامَةِ الأعضَاءِ، فيُستَحَبُّ ألَّا يَنْقُصَ عن مقدارٍ يكونُ بالنِّسْبَةِ إلى بدنِهِ كنِسْبَةِ الْمُدِّ والصاعِ إلى بَدَنِ رسولِ الله صلعم.
          والإباضية زعمُوا أنَّ قليلَ الماء لا يُجزئُ. والشَّريعةُ المطهَّرة حُجَّةٌ على مَن خالفَ.