التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب النهي عن الاستنجاء باليمين

          ░18▒ بَابُ النَّهْيِ عَن الِاسْتِنْجَاءِ بِاليَمِينِ:
          153- حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ _هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ_، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ، وَإِذَا أَتَى الخَلاَءَ فَلاَ يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ).
          الكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ قد ذَكَرَهُ بعْدُ [خ¦154] وفي الأشربة أيضًا [خ¦5630] وأخرجهُ أيضًا مسلمٌ وباقي الجماعَةِ، وفي «صحيحِ ابنِ خُزَيمة» التَّصريحُ بإخبارِ ابنِ أبي قَتَادةَ عن أبيه، وصحَّ اتصالُه، وارتفَعَ توهُّمُ مَن تَوهَّم تدليسَ يَحيى فيه.
          ثانِيها: في التَّعريفِ بِرُواتِه:
          أما أَبُو قَتَادَةَ فهو الحارثُ _وقيل النُّعمانُ، وقيل عمْرُو_ بن رِبْعيِّ بن بَلْذَمة بن خُنَاس بن سِنَان بن عبيد بن عَديِّ بن غَنْم بن كعب بن سَلِمَةَ _بكسر اللام_ السَّلَميُّ _بفتْحِها، ويجوزُ في لُغَةٍ كَسْرُها_ المدَنيُّ، فارِسُ رسولِ الله صلعم، شهِدَ أُحُدًا والخندقَ وما بعدَها، والمشهورُ أنَّه لم يشهدْ بدْرًا، رُوِيَ له مئةُ حديثٍ / وسبعونَ حديثًا، انفردَ البُخاريُّ بحديثينِ ومسلمٌ بثمانية، واتَّفقَا على أَحَدَ عَشَرَ، ومناقِبُهُ جَمَّة، ماتَ بالمدينةِ _وقيل بالكُوفةِ_ سنةَ أربعٍ وخمسينَ على أحَدِ الأقوالِ عن سبعينَ سنة، ولا نعلمُ في الصَّحابةِ مَن يُكْنَى بهذهِ الكُنيةِ سِواهُ.
          وأمَّا ولَدُه (عَبْدِ اللهِ) فهو أبو إبراهيمَ السَّلَميُّ، رَوَى عن أبيه وعنه يَحيى وغيرُه، ماتَ سنةَ خمسٍ وتسعين. وأمَّا (مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ) فهو أبو زيدٍ البَصريُّ، رَوَى عن الثَّورِيِّ وغيرِه وعنه البُخاريُّ وغيرُه، وباقي رجالِه سَلَفَ التَّعريفُ به.
          الوجه الثَّالثُ: التَّنَفُّسُ هنا خروجُ النَّفَسِ مِن الفَمِ، يُقال تنَفَّسَ الرجُلُ وتنَفَّسَ الصُعَداءَ، وكلُّ ذي رئة يتنفَّسُ، وذواتُ الماءِ لا رئات لها كما قالَه الجَوهريُّ. والتَّمَسُّحُ الاستنجاءُ.
          الوجهُ الرَّابعُ: في فوائدِه، وهو حديثٌ جامعٌ لآدابٍ نبويَّةٍ.
          الفائدةُ الأُولَى: كراهةُ التَّنَفُّسِ في الإناءِ، ووجْهُهُ ما فيه مِن تقذِيرِ الماءِ والإناءِ بخُروجِ شَيءٍ مِن الفَمِ أو الأنفِ بالنَّفَسِ، والماءُ مِن ألطفِ المشارِبِ وأَقْبَلِها للتَّغييرِ بالرِّيحِ، والتَّنفُّسُ خارِجَهُ أحسَنُ في الأدبِ وأبعَدُ عن الشَّرَهِ وأخفُّ للمَعِدَةِ، وإذا تَنَفَّسَ فيه تكاثرَ الماءُ في حلقِهِ وأثقَلَ معِدَتَهُ، وربَّما شَرِقَ وآذَى كَبِدَهُ، وهو فِعْلُ البهائمِ.
          وقد قيلِ: إنَّ في القلْبِ بابَيْنِ يدخُلُ النَّفَسُ مِن أحدِهِما ويخرُجُ مِن الآخَرِ فيَنفِي ما على القلبِ مِن هَمٍّ وقذًى، ولذلك لو احتبَسَ النَّفَسُ ساعةً هَلَكَ الآدميُّ، فَكُرِهَ التنفُّس في الإناءِ خَشيةَ أن يصحَبَهُ شيءٌ ممَّا في القلْبِ فيقعَ في الماءِ ثُمَّ يشربه فقد يتأذَّى به، وقيل: عِلَّةُ الكراهةِ أنَّ كلَّ عَبَّةٍ شَرْبَةٌ مستأنَفَةٌ فَيُسْتَحبُّ الذِّكْرُ في أوَّلِها والحمدُ في آخِرِها فإذا وصلَ ولم يَفْصِلْ بينهما فقدْ أَخَلَّ بِعِدَّةِ سُنَنٍ.
          الثَّانيةُ: الإبانةُ هنا مُطلقَةٌ، وثبتَ في الحديثِ الآخَرِ موصوفة بالتَّثليثِ، واختلفَ العلماءُ في أيِّ هذه الأنفاسِ الثَّلاثةِ أطولُ على قوليْنِ: أحدُهما الأوَّلُ، والثَّاني أنَّ الأُولَى أقصُر والثَّانيةُ أَزْيَدُ منها والثَّالثةُ أَزْيَدُ منها؛ ليجمعَ بين السُّنَّةِ والطِّبِّ لأنَّهُ إذا شَرِبَ قليلًا قليلًا وصلَ إلى جوفه مِن غيرِ إزعاجٍ، ولهذا جاء في الحديثِ: ((مُصُّوا الماءَ مصًّا ولا تَعبُّوه عَبًّا، فإنَّه أَهْنَأُ وأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ)).
          الثَّالثةُ: لا يختصُّ النَّهيُ المذكورُ بالشُّرْبِ، بل الطَّعامُ مثلُه فيُكْرَه النَّفخُ فيه، والتَّنفُّسُ في معنى النَّفخِ. وفي «جامع الترمذيِّ» مصحِّحًا عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ: أنَّه صلعم نَهَى عن النَّفْخِ في الشَّرابِ، فقالَ رجلٌ: القَذَاةُ أَرَاها في الإناءِ؟ فقال: ((أَهْرِقْهَا)) قال: فإنِّي لا أَرْوَى مِن نَفَسٍ واحِدٍ. قال: ((فَأَبِنِ القَدَحَ إِذَنْ عَنْ فِيكَ)).
          وأمَّا حديثُ أنسٍ الثَّابتُ في «الصَّحيحين»: ((أنَّه صلعم كانَ يَتَنفَّسُ في الشَّرابِ ثلاثًا)) فمعناه خارِجَ الإناءِ، أو فَعَلَهُ بيانًا للجوازِ، أو النَّهيُ خاصٌّ بغيرِه لأنَّ ما يُتَقذَّر مِن غيرِه يُسَتطابُ منه.
          الرَّابعةُ: جوازُ الشُّرْبِ مِن نَفَسٍ واحدٍ لأنَّه إنَّما نَهَى عن التَّنفُّسِ في الإناءِ، والَّذي شَرِبَ في نَفَسٍ واحِدٍ لمْ يتنفَّسْ فيه فلا يكون مخالِفًا للنَّهيِ. وكرِهَهُ جماعةٌ وقالُوا: هو شُرْبُ الشَّيطانِ. وفي التِّرمِذِيِّ محسِّنًا مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا: ((لاَ تَشْرَبُوا وَاحِدًا كَشُرْبِ البَعِيرِ، وَلَكِن اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلاَثَ، وَسَمُّوا إِذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ، وَاحْمَدُوا إِذَا أَنْتُمْ رَفَعْتُمْ)).
          الخامسةُ: النَّهيُ عن مسِّ الذَّكَرِ باليمينِ وذلك لاحترامِها وصيانتِها، وهذا النَّهيُ للتَّنزيهِ عندَ الجمهورِ خلافًا للظَّاهريَّةِ حيثُ حرَّموا مسَّ الإنسانِ ذَكَرَهُ فقطْ.
          السَّادسةُ: النَّهيُ عن الاستنجاءِ باليمينِ، وخالفَ بعضُ الظَّاهريَّةُ فقال: لا يُجزئُ الاستنجاءُ به، وهو وجهٌ لأصحابِ الإمامِ أحمدَ لاقتضاءِ النَّهْيِ الفساد، وحكاهُ ابنُ بطَّالٍ عن بعضِ الشَّافعيَّةِ أيضًا. والَّذي قاله بعضُ الشَّافعيَّةِ كصاحبِ «المهذَّب» وغيرِه التَّحريمُ فقطْ، وعن مالكٍ: أنَّه يُسِيءُ ويُجزئُه، ومِن العلماءِ مَن خصَّ النَّهيَ عن مسِّ الذَكَرِ باليمينِ بحالةِ البولِ أَخْذًا بالرِّوايةِ الأُخرَى الآتيةِ في تقييدِها بذلكَ.
          فَرْعٌ: إذا استنجَى بالماءِ صبَّه بيمينه ومسحَ بيسارِه، وإذا استنجَى بالحَجَرِ أمسكَ ذَكَرَهُ بيسارِهِ والحجَرَ بيمينِه وحرَّكَ اليسارَ ليَخرُجَ مِن النَّهْيَيْنِ.
          فَرْعٌ: مَن كان في يَدِهِ خاتَمٌ فيه اسمُ الله تعالى فلا يَستَنْجِ وهو في يَدِه لأنَّه إذا نُزِّهَتِ اليُمنَى عن ذلك فَذِكْرُ الله أَوْلَى وأعظمُ، ورِوايةُ «العتبيَّة» في ذلك منكَرةٌ لا يَحِلُّ ذِكْرُها.
          السَّابعةُ: فضلُ التَّيامُنِ.