التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب مسح الرأس كله

          ░38▒ بَابُ مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ، لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6].
          (وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا).
          هذا رواهُ ابنُ أبي شَيبَةَ بإسنادٍ صحيحٍ فقالَ: حدَّثَنا وكيعٌ عن سُفيانَ عن عبدِ الكريم يعني ابنَ مالكٍ، عن سعيدِ بن المسيِّب: المرأةُ والرَّجُلُ في مسْحِ الرَّأسِ سواءٌ.
          ثُمَّ قال البخاريُّ: (وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ رَأْسِه؟ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ).
          قال ابنُ التِّينِ: قرأْنَاه غيرَ مهموزٍ وضُبِطَ في بعْضِ الكُتُبِ بالهمْزِ وضمِّ الياءِ على أنَّه رُباعيٌّ مِن أَجْزَأَ، ومرادُه بحديثِ عبدِ الله بنِ زيدٍ الَّذي ساقَه، فقالَ:
          185- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى المَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا، قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ _وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى_ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ، (فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ / وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ).
          والكلامُ عليه مِن وجوهٍ:
          أحدها: هذا الحديثُ أخرجهُ البُخاريُّ هنا، وسيأتي قريبًا في مواضعَ: عَقِبَهُ [خ¦186] وفي المضمضةِ [خ¦191] ومسحِ الرَّأسِ مرَّةً [خ¦192] والوُضوءِ من المِخْضَبِ [خ¦197] ومِن التَّورِ [خ¦199] وأخرجهُ مسلمٌ وباقي الجَماعةِ في الطَّهارةِ أيضًا.
          ثانِيها: فيه سؤالُ المتَعَلِّم مِمَّن لديهِ عِلْمٌ.
          ثالثُها: هذا الإناءُ الَّذي أَفرغَ منه كان تَوْرًا كما سيأتي في بابِه. ومعنى (أَفْرَغَ) قَلَبَ.
          رابعُها: فيه الإفراغُ على اليدين معًا وقد سَلَفَ الكلامُ عليه في حديثِ عثمانَ في بابِ الوُضوءُ ثلاثًا ثلاثًا.
          خامسُها: فيه تثنيةُ غَسْلِ اليَدِ، وسيأتي عنه في بابِ مسحِ الرأسِ مَرَّةً التَّثليثُ وكِلاهُما سائِغٌ.
          سادسُها: فيه استحبابُ غَسْلِ اليدِ قبْلَ إدخالِها الإناءِ في ابتداءِ الوُضوءِ.
          سابعُها: جوازُ إدخالِ اليدينِ الإناءَ بعْدَ غسلِهما وأنَّه لا يفتقِرُ إلى نِيَّةِ الاغترافِ.
          ثامنُها: التَّرتيبُ بينَ غَسْلِ اليدينِ والمضمضةِ، وقد سَلَفَ في حديثِ عُثمانَ وسَلَفَ فيه أيضًا الكلامُ على المضمضةِ.
          تاسعُها: لم يذكُرْ هنا الاستنشاقَ وذَكَرَ بدلَهُ الاستِنْثَارَ، وقد قيل إنَّه هو لكنِ الأصحُّ التَّغايُرُ كما سَلَفَ، وقد ذَكَرَ الثَّلاثةَ في بابِ مسْحِ الرَّأسِ مَرَّةً كما ستعلمُهُ.
          عاشِرُها: فيه تثليثُ المضمضَةِ والاستنثَارِ وذلك سُنَّةٌ، والأصحُّ الجمْعُ في المضمضةِ بثلاثِ غُرَفٍ، وَوَرَدَ الفصْلُ أيضًا بِغَرْفَتَينِ وصُحِّحَ لكنِ الأصَحُّ الأوَّلُ.
          حادي عَشَرِها: فيه تثليثُ غَسْلِ الوجه وقامَ الإجماعُ على سُنِّيَّةِ ذلك.
          الثَّاني عَشَر: فيه تثنيةُ غَسْلِ اليدينِ إلى المِرفَقَينِ وهو جائزٌ والأفضلُ ثلاثًا كما مرَّ، وقد سَلَفَ الكلامُ على المِرفَقِ وإدخالِه في حديثِ عثمانَ السَّالِفِ، وكذا على مسْحِ الرَّأسِ وغَسْلِ الرِّجْلينِ.
          الثَّالثُ عَشَرَ: فيه استيعابُ الرَّأسِ بالمسحِ، والإجماعُ قائمٌ على مَطلوبِيَّتِهِ لكنْ هل ذلك على وجْهِ الوجوبِ أو النَّدبِ؟ فيه خلافٌ أسلفْتُهُ هناك، والكيفِيَّةُ المذكورةُ في هذا الحديثِ هي المشهورةُ في الحديثِ، وقد ذكرْتُ في «شرح العُمدة» في معنى أقْبَلَ وأدْبَرَ ثلاثةَ مذاهبٍ فراجِعْها منه، ووجهَينِ آخَرَينِ أيضًا.
          ومِمَّا احتُجَّ به على عدمِ وجوبِ الاستيعابِ حديثُ المغيرةِ بن شُعبةَ ((أنَّه صلعم مَسَحَ بِنَاصيتهِ وَعَلى عَمَامتِهِ)). وأجابَ ابنُ القَصَّار عنه بأنَّه يحتمل أيضًا إرادةَ الكُلِّ كقولِه تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41] فإنَّها هنا الرُّؤوسُ ولا يُرادُ بعضُها. ثُمَّ أَعَلَّ حديثَ المغيرة بمَعْقِلِ بن مسلم، قال: وصحيحُهُ مُرسَلٌ عن المغيرةِ. قال: ولو صحَّ فلا حُجَّةَ فيه لأنَّه لم يقتَصِرْ عليها بل على العِمامةِ أيضًا، ويُصْرَفُ مَسْحُهُ عليها للعُذرِ.
          وفي الحديثِ جوازُ غَسْلِ بعضِ أعضاءِ الوُضوء مَرَّةً وبعضِها أكثرَ مِن ذلكَ.
          وادَّعى ابنُ بطَّالٍ أنَّ قولَه في الحديثِ جميعِه: (ثُمَّ) لمْ يُرِدْ بِها المهلَةَ وإنَّما أرادَ بها الإخبارَ عَن صِفَةِ الغَسْلِ، وأنَّ (ثُمَّ) هُنا بمعنى الواوِ. ولا يُسلَّمُ له ذلك.