التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب البول عند صاحبه والتستر بالحائط

          ░61▒ بَابُ البَوْلِ عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَالتَّسَتُّرِ بِالحَائِطِ.
          225- حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ: (رَأَيْتُنِي أَنَا وَالنَّبِيُّ صلعم نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ، فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُهُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ).
          ░62▒ بَابُ البَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ.
          226- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ يُشَدِّدُ فِي البَوْلِ، وَيَقُولُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَيْتَهُ أَمْسَكَ، (أَتَى رَسُولُ اللهِ صلعم سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا).
          الكلامُ على ذلك مِن وُجوهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجه في المظالم [خ¦2471] وأخرجه مسلٌم والأربعةُ هنا أيضًا.
          و(أَبُو وَائِلٍ) اسمُه شَقِيقُ بن سَلَمة، أَسَدِيٌّ مشهورٌ، وانفردَ أبو داودَ بأبي وائلٍ القاصِّ عبدِ الله بنِ بَحِيرٍ، وليسَ في الكُتُبِ السِّتَّةِ غيرُ هذين بهذه الكُنيةِ، وصرَّح الحُمَيدِيُّ في «مسنده» / بِسماع الأعمشِ إيَّاهِ من أبي وائلٍ وكذا أحمدُ بن حنبل. وقال الدَّارقُطْنيُّ: رواهُ عاصمُ بن بَهْدَلة وحمَّادُ بنُ أبي سُليمانَ عن أبي وائلٍ عن المغيرةِ وهو خطأٌ. وقال التِّرمِذِيُّ وجماعةٌ مِن الحفَّاظِ فيما حكاهُ البَيْهَقِيُّ: حديثُ الأعمشِ ومنصورٍ عن أبي وائلٍ عن حذيفةَ أصحُّ مِن روايةِ عاصمٍ وحمَّادٍ. وجَمَعَ ابنُ خُزيمة بينهُما في الحديثِ وساقَ حديثَ حمَّادٍ وعاصمٍ. ورواهُ ابنُ ماجه مِن حديثِ عاصمٍ عن أبي وائلٍ عن المغيرةِ، وعن عاصمٍ عن المغيرةِ بإسقاطِ أبي وائلٍ.
          ثانيها: السُّبَاطَةُ بِضَمِّ السِّينِ وفتْحِ الباء الموحَّدَةِ، الموضع الذي يُرمَى فيه التُّراُب ونحوُه يكونُ بفِناءِ الدُّور مِرْفَقًا لِأهْلِهَا، ويكونُ ذلكَ في الغالبِ سهْلًا فلا يَرُدُّ على بائلِه. وقيل: إنَّها الكُنَاسَةُ نفسُها.
          ثالثُها: كانتْ هذه السُّباطَة بالمدينةِ كما ذَكَرَهُ محمَّدُ بن طلحةَ بنُ مُصَرِّفٍ عن الأعمشِ.
          رابعُها: بولُه صلعم في هذه السُّباطةِ يحتمل أوجُهًا:
          أظهَرُها: أنَّهم كانوا يؤثِروَن ذلك ولا يكرهونَه بل يفرَحُونَ به، ومَن كان هذا حاله جازَ البولُ في أرْضِهِ والأكْلُ مِن طعامِه، بل كانُوا يسْتَشْفُونَ به بل وَرَدَ أنَّ الأرضَ تبتَلِعُ ما يخرُجُ منه ويفوحُ له رائحةٌ طيِّبةٌ.
          ثانِيها: أنَّها كانتْ مَوَاتًا مُباحةً لا اختصاصَ لهم بها وكانتْ بفِناءِ دُورِهِم للنَّاسِ كلِّهم، فأُضيفَتْ إليهِم لقُرْبِها منهم، فإضافَتُها إضافةُ اختصاصٍ لا مُلْكٍ.
          ثالثُها: أنْ يكونوا أَذِنُوا في ذلكَ إمَّا صريحًا أو دِلالةً.
          خامسُها: رَوَى وكيعٌ عن زائدةَ عن زكرِيَّا عن عبدِ العزيزِ أبي عبدِ الله عن مجاهدٍ: ((ما بالَ صلعم قائمًا إلَّا مَرَّةً واحدةً في كَثِيبٍ أعجَبَهُ)) وهذا الحديثُ يَرُدُّهُ.
          سادسُها: المعروفُ مِن عادتِه عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ البُعْدُ في المذْهَبِ، وأمَّا بولُه في هذه السُّبَاطَةِ فلأنَّه صلعم كان مِن الشُّغْلِ بأمورِ المسلمينَ والنَّظَرِ في مصالحِهم بالمحلِّ المعروفِ، فلَعَلَّه طالَ عليه المجلِسُ حتَّى حَفَزَهُ البَوْلُ فلم يُمكِنِ التَّباعُدُ ولو أَبْعَدَ لَتَضَرَّرَ، وارتَادَ السُّباطَةَ لِدَمَثِها، وقام حذيفةُ بِقُرْبِهِ لِيستُرَه عن النَّاسِ.
          سابعُها: في سببِ بولِه صلعم قائمًا أوجُهٌ:
          أحدُها: أنَّ العربَ كانتْ تستشفِي لِوَجَعِ الصُّلْبِ به، فلعلَّ ذلك كان به.
          ثانِيها: أنَّه فعَلَ ذلك لجُرحٍ كان بمَأْبِضِهِ، والمأْبِضُ باطِنُ الرُّكْبَةِ، ورَواهُ الحاكِمُ في «مستدرَكِه» وقال: رُواتُه كلُّهم ثقاتٌ. وفيه نَظَرٌ لا جَرَمَ ضعَّفَهُ البَيْهَقِيُّ وغيرُه.
          ثالثُها: أنَّه لم يجِدْ مكانًا للقُعودِ فاضطُرَّ إلى القيامِ لِكوْنِ الطَّرَفِ الَّذي يليهِ مِن السُّباطَةِ كان عاليًا مرتفِعًا.
          رابعُها: أنَّه فعلَ ذلك لأنَّها حالةٌ يُؤمَن فيها خروجُ الحدَثِ مِن السَّبيلِ الآخَرِ بِخلافِ القُعودِ، ومنه قولُ عمرَ ☺: البولُ قائمًا أحصَنُ للدُّبُرِ.
          خامسُها: أنَّه فَعَلَهُ لِبَيانِ الجوازِ، وعادتُه المستَمِرَّةُ القعودُ، دليلُه حديثُ عائشةَ: ((مَن حدَّثَكُم أنَّه صلعم كانَ يَبُولُ قائمًا فلا تُصَدِّقُوه، ما كانَ يَبُولُ إلَّا قاعِدًا)) رواه أحمدُ والتِّرمِذِيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجه بإسنادٍ جيِّدٍ، لا جَرَمَ صحَّحهُ ابنِ حِبَّانَ والحاكِمُ وقال: على شَرْطِ البُخاريِّ ومسلمٍ. وقال التِّرمِذِيُّ: إنَّه أحسَنُ شيءٍ في البابِ وأصحُّ.
          سادسُها: لعلَّهُ كانتْ في السُّباطةِ نجاساتٌ رَطْبَةٌ وهي رِخْوَةٌ فَخَشِيَ أنْ يتطايَرَ عليه، أبداهُ المنذِرِيُّ. وقد يُقال: القائمُ أَجْدَرُ بهذِهِ الخَشيةِ مِن القاعِدِ.
          واعلَمْ أنَّ بعضَهم ادَّعى نسْخَ حديثِ حذيفةَ بعائشةَ، قال أبو عَوَانة في «صحيحِه» بعدَ أنْ أخرجهُ بلفْظِ ((ما بالَ قائمًا منذُ أُنزِلَ عليه القرآنُ)) حديثُ حذيفةَ منسوخٌ بهذا، وقال الحاكمُ في «مستدرَكِه» بعْدَ أنْ أخرجَهُ بلفظِ ((مَا رَأَى أَحَدٌ النَّبيَّ صلعم يَبُولُ قَائِمًا مُنْذُ أُنزِلَ عَلَيهِ القُرْآنُ)) الَّذي عندِي أنَّهما لَمَّا اتَّفقَا على حديثِ حذيفةَ وَجَدَا حديثَ عائشةَ معارِضًا له تَرَكَاهُ، ولَكَ أن تقولَ: إنَّه غيرُ معارِضٍ لأنَّ عائشةَ أخبرَتْ بما شاهدَتْ ونَفَتْ ما علِمَتْ وذلك الأغلبُ مِن حالِه، ثُمَّ المثبِتُ مقدَّمٌ على النَّافي. ورَوَى ابنُ ماجه عن سُفيانَ بن سعيدٍ: الرَّجُلُ أعلَمُ بهذا مِن المرأَةِ، ثُمَّ حذيفةُ مِن الأحْدَثِينَ فكيف يتَّجه النَّسْخُ؟!
          ثامنُها: رُوِيَ في النَّهي عن البَولِ قائمًا أحاديثُ لا تثبُتُ، وحديثُ عائشةَ السَّالِفُ ثابتٌ. ومِن الأحاديثِ الضَّعيفةِ حديثُ جابرٍ: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم الرَّجُلَ أن يَبُولَ قَائِمًا)) وسببُ ضَعْفِهِ عَديُّ بنُ الفضْلِ راوِيهِ. وحديثُ بُرَيدةَ مرفوعًا: ((ثَلَاثٌ مِن الجَفَاء: أن يَبُولَ الرَّجُلُ قَائِمًا)) الحديث قال التِّرمِذِيُّ: غيرُ محفوظٍ. لكنَّ البَزَّارَ أخرجه بسندٍ جيِّدٍ.
          وحديثُ عمرَ: رآني رسولُ الله صلعم وأنا أبولُ قائمًا فقال: ((يا عُمَرُ، لا تَبُلْ قائِمًا)) فما بُلْتُ قائمًا بعْدُ. قال التِّرمِذِيُّ: إنَّما رَفَعَهُ عبدُ الكريم وهو ضَعِيفٌ. وَرَوَى عُبيدُ الله عن نافعٍ عنِ ابنِ عمرَ قال: قال عمرُ: ما بُلْتُ قائمًا منذُ أسلمْتُ. وهذا أصحُّ منه. وأمَّا ابنُ حِبَّانَ فأخرجَهُ في «صحيحِه» وقال: أخافُ أن يكونَ ابنُ جُرَيجٍ لم يسمعْهُ مِن نافعٍ.
          وقال الكرابيسيُّ في كتابِ «المدلِّسين»: روى الأعمشُ عن زيدِ بن وهْبٍ أنَّه رأى عمرَ بالَ قائمًا، فخالفَ روايةَ الحِجازِيِّينَ. وقال ابنُ المنذِرُ: ثَبَتَ أنَّ عمرَ وابنَه وزيدَ بنَ ثابتٍ وسهلَ بنَ سعدٍ بالُوا قيامًا. قال: ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ وأنسٍ وأبي هُريرةَ، وفعَلَ ذلك ابنُ سيرينَ وعروةَ بن الزُّبَيرِ، وكرِهَهُ ابنُ مسعودٍ والشَّعْبِيُّ وإبراهيمُ بنُ سَعْدٍ. وكانَ ابنُ سَعْدٍ لا يُجيز شهادةَ مَن بالَ قائمًا، ولمْ يبلُغْهُ الحديثُ كما قال الدَّاوُدِيُّ في «شرحِه».
          قال: وفيه قولٌ ثالثٌ أنَّه إنْ كانَ في مكانٍ يتطايَرُ إليه مِن البَولِ شيءٌ فمكروهٌ، وإن كان لا يتطايَرُ فلا بأسَ به، وهذا قولُ مالكٍ. قال ابنُ المنذِرِ: والبَولُ جالسًا أحبُّ إليَّ وقائمًا مُباحٌ وكلُّ ذلك ثبتَ عنه صلعم. وقال أصحابُنا: يُكره قائمًا كراهةَ تنزيهٍ دونَ عُذْرٍ.
          تاسعُها: قولُه: (ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ) فيه جوازُ الاستعانةِ في العباداتِ.
          وقولُه: (فَتَوَضَّأَ بِهِ) إنْ كان المرادُ به الوُضوءُ الشَّرعيُّ ففيه الاستعانةُ بإحضارِ الماءِ للطَّهارةِ ومطلوبِيَّةُ الوُضوءِ عَقِبَ الحَدَثِ حتَّى يكونَ على طهارةٍ، وإنْ كانَ المرادُ بالوضوءِ الاستنجاءُ ففيه ردٌّ على مَن منعَهُ بالماءِ، وقد سَلَفَ ما فيه.
          عاشرُها: معنى (انْتَبَذْتُ مِنْهُ) تأخَّرْتُ عنه بعيدًا، وفعَلَ حذيفةُ ذلكَ تأدُّبًا معه لأنَّها حالةٌ تُخفَى ويُستَحْيَا مِنها.
          حادي عَشَرِهَا: قولُه: (فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُهُ) وفي روايةٍ ((فقالَ: ادْنُهْ)) قد يُستدلُّ به على جوازِ التَّكلُّمِ عندَ قضاءِ الحاجةِ إلَّا أن يُؤوَّلَ القولُ على الإشارةِ، وإنَّما استدْنَاهُ ليستَتِرَ به عنْ أعيُنِ النَّاسِ، ولكونِها حالةٌ يُستخفَى بها ويُستَحْيا منها عادةً كما سَلَفَ، وكانَتِ الحاجَةُ بولًا يُؤمَنُ معه مِن الحدَثِ الآخَرِ فلِهذَا استدناهُ.
          وجاءَ في حديثٍ آخَرَ أنَّه قال: ((تَنَحَّ)) لكونِه كان قاعِدًا ويحتَاجُ إلى الحدَثَيْنِ جميعًا، ولهذَا قالَ بعضُ العلماءِ في هذا الحديثِ: مِن السُّنَّةِ القُرْبُ مِن البَائِلِ إذا كان قائمًا فإنْ كان قاعدًا فالسُّنَّةُ الإبعادُ عنه، وقال إسحاقُ بن رَاهَوَيْه: لا ينبغي لأحَدٍ يتقرَّبُ مِن الرَّجُلِ يتغوَّطُ أو يبولُ جالسًا لِقولِه صلعم: ((تنحَّ فإنَّ كلَّ بائلةٍ تَفِيْخُ)) ويُروَى: ((تُفِيشُ)).
          ثاني عَشَرِها: مقصودُ حذيفةَ بقولِه: (لَيْتَهُ أَمْسَكَ) أنَّ هذا التَّشديدَ خلافُ السُّنَّةِ فإنَّه صلعم بالَ قائمًا، ولا شَكَّ في كَوْنِ القائمِ يتعرَّضُ للرَّشَاشِ فلَمْ يتكلَّفْ إلى هذا الاحتمالِ ولا تكلَّفَ البولَ في قارورةٍ كما كانَ يفعَلُهُ أبو مُوسى. /
          ثالثُ عَشَرِها: قولُه: (كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ) وفي روايةٍ: ((إذا أَصَابَ جِلْدَ أَحَدِهُم بَوْلٌ قَرَضَهُ)) يعني: بالجِلْدِ الَّتي كانوا يلبسونها كما قالَه القُرطُبيُّ، قال: وحَمَلَهُ بعضُ مشايِخِنا على ظاهِرِه، وأنَّ ذلك مِن الإِصْرِ الَّذي حُمِّلُوه. و(قَرَضَهُ) أي قَطَعَهُ.
          رابِعُ عَشَرِها: في فوائدِهِ مختصَرَةً:
          فيه جوازُ البولِ قائمًا، وقُرْبِ الإنسانِ مِن البائِلِ، وطلبِ البائلِ مِن صاحبِه الَّذي يُسْدِل عليه القربَ منه ليستُرَهُ. واستحبابُ التَّسَتُّرِ. وجوازُ البولِ بِقُرْبِ الدِّيارِ والاستعانةِ كما سَلَفَ. وكراهَةُ مدافَعَةِ البولِ إذا قلنا إنَّ البَولَ في السُّباطةِ لِذلِكَ. وكراهةُ الوسْوَسَةِ. وتقديمُ أعظَمِ المصلحتَينِ ودفْعُ أعظَمِ المفسدَتَينِ. وخدمَةُ العَالِم. والتَّسهيلُ على هذه الأُمَّة. والرُّخصة في يسيرِ البولِ لأنَّ المعهودَ مِمَّن بال قائمًا أن يتطايَرَ إليه مِثْلُ رؤوسِ الإبَرِ، وهو مذهبُ الكوفِيِّينَ خلافًا لمالكٍ والشَّافَعَيِّ، وقال الثَّورِيُّ: كانوا يرخِّصُون في القليلِ مِن البولِ.