التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما جاء في الوضوء

          ░1▒ بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6].
          هكذا هو ثابتٌ في النُّسخ الصَّحيحة، وفي بعضها: <بَابُ مَا جَاءَ فِي الوُضُوءِ، وَقَوْلِ اللهِ تعالى..> إلى آخره، وعليها مشى ابن بطَّالٍ في «شرحه»، والدِّمياطيُّ في أصله.
          ومعنى قوله تعالى: ({إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}) / أي: مُحْدِثين، كذا قدَّره الجمهور، وذهب جماعةٌ مِنَ السَّلف إلى عدم التَّقدير، وأنَّه يجِبُ الوضوء لكلِّ صلاةِ فرضٍ عملًا بظاهر الآية، وذهب قومٌ إلى أنَّ ذلك كان ثمَّ نُسِخ يوم الفتح، وضعَّفَهُ في «شرح مسلم»، وقيل: لا نسخ، بل الأمرُ به لكلِّ صلاةٍ على النَّدْب، لأنَّهُ إذا نُسِخ الوجوب بقي التَّخيير.
          ثمَّ أجمع أهل الفتوى بعد ذلك على أنَّهُ لا يجبُ إلَّا على المحدِث، وأنَّ تجديده لكلِّ صلاةٍ مندوبٌ، ولم يبقَ بينهم اختلاف، واختلف أصحابنا في الموجِب للوضوء على ثلاثة أوجهٍ:
          أحدها: أنَّه يجِبُ بالحدَث وجوبًا موسَّعًا.
          وثانيها: لا يجِبُ إلَّا عند القيام إلى الصَّلاة.
          وأصحُّها: وجوبه بالأمرين، كذا صحَّحَهُ المتولِّي وغيره، واختلف العلماء: هل الوضوء مِنْ خصائص هذه الأُمَّة أم لا؟ على قولين، وستأتي حُجَّة كلٍّ منهم قريبًا في باب فضل الوضوء إن شاء الله تعالى [خ¦136].
          والواو في الآية ليست للتَّرتيب على الصَّواب، وإنَّما أُخذ مِنْ أدلَّة أخرى _ستمرُّ بك إن شاء الله_ وهو قول الشَّافعيِّ وأحمد خلافًا لمالكٍ والكوفيِّين.
          وقد وردت في الكتاب العزيز للتَّرتيب وغيره، فمِنَ الأوَّلِ قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، وقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} [البقرة:158]. ومِنَ الثَّاني قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله} [البقرة:196]، وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92].
          والوجه ما تقع به المواجهة، وقد حدَّدناه في كُتُب الفروع، وكذا اليد والمرفق، وسيأتي الكلام على مسح الرَّأس وغسل الرِّجْلين إلى الكَعْبَين حيث ذكره البخاريُّ إن شاء الله تعالى.
          قال البخاريُّ ☼: (وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلعم أَنَّ فَرْضَ الوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً) وجه ذلك أنَّهُ صحَّ أنَّه ╕ توضَّأ مرَّةً مرَّةً كما رواه قريبًا مِنْ حديث ابن عبَّاسٍ، وصلَّى به فعلم أنَّه الفرض، إذ لا يُنْقِصُ ╕ منه، وهو المبيِّنُ عن الله تعالى لأُمِّته دينَهم، وهو أيضًا إجماعٌ كما نقله ابن جريرٍ وغيره.
          وشذَّ بعضهم فأوجبَ الثَّلاث، حكاه الشَّيخ أبو حامدٍ وغيره، وحكاه صاحب «الإبانة» عن ابن أبي ليلى، وهو باطلٌ يردُّهُ إجماع مَنْ قبله، والنُّصوص الصَّريحة الصَّحيحة أيضًا.
          وقال مُهَنَّا: سألت أبا عبد الله _يعني: أحمد بن حنبلٍ_ عن الوضوء مرَّةً مرَّةً، فقال: الأحاديث فيه ضعيفةٌ، ثمَّ ذكر حديث جابر في وضوئه مرَّةً ومرَّتين وثلاث مرَّاتٍ، أخرجه ابن ماجه، وفيما قاله نظرٌ، فقد صحَّ مِنْ حديث ابن عبَّاسٍ كما أسلفناه، قال مالكٌ: ولا أحبُّ الواحدة إلَّا مِنَ العالِم.
          قال البخاريُّ: (وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ) وهو كما قال، وسيأتي مِنْ حديث عبد الله بن زيدٍ في بابٍ معقودٍ له.
          قال: (وَثَلاَثًا ثَلاَثًا) هو كما قال، وقد عَقَد له بابًا أيضًا كما سيأتي، لكن لم يذكر فيه المسح ثلاثًا، وقد أخرجه أبو داود مِنْ حديث عثمان بن عفَّان ☺.
          قال البيهقيُّ في «خلافيَّاته»: إسناده قد احتجَّا بجميع رواته غير عامر بن شقيق بن سَلَمة، قال الحاكم: لا أعلم في عامر طعنًا بوجهٍ مِنَ الوجوه.
          ووضوؤه ╕ مرَّتين وثلاثًا هو مِنْ باب الرِّفق بأُمَّته والتَّوسعة عليهم ليكون لمن قصَّرَ في المرَّة الواحدة مِنْ عموم غسل أعضاء الوضوء أن يستدرك ذلك في المرَّة الثَّانية والثَّالثة، ومَنْ أكمل أعضاءه أوَّلًا، فالثَّانية سُنَّةٌ والثَّالثة فضيلةٌ، وكأنَّ تنويع وضوئه ╕ مِنْ باب التَّخيير، كما ورد التَّخيير في كفَّارة الأيمان.
          قال البخاريُّ ☼: (وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الثَّلاَثِ) هو كما قال، بل روى ابن خزيمة في «صحيحه» مِن ْحديث عمرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدَّهِ قال: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلعم يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثمَّ قال: ((هَذَا الوُضُوءُ، فَمَن زادَ على هَذَا فَقَد أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَم))، ثمَّ قال: لم يُوصِل هذا الخبر غير الأَشْجَعيِّ ويَعلى.
          وزعم أبو داود في كتاب «التفرُّد» أنَّه مِنْ منفردات أهل الطَّائف، ورواه ابن ماجه في «سننه» كذلك، ورواه أحمد في «مسنده»، والنَّسائيُّ في «سننه» بلفظ: ((فَقَد أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَم))، ورواه أبو داود في «سننه» بلفظ: ((أو نَقَصَ فَقَد أَساءَ وَظَلَم)) أو ((ظَلَمَ وأَسَاءَ)).
          قال البخاريُّ ☼: (وَكَرِهَ أَهْلُ العِلْمِ الإِسْرَافَ فِيهِ، وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِيِّ صلعم) هذا مِنَ البخاريِّ إشارة إلى نقل الإجماع على منع الزِّيادة على الثَّلاث، وقد قال الشَّافعيُّ في «الأم»: لا أحبُّ الزِّيادة عليها، فإن زاد لم أكرهه، إن شاء الله.
          وحاصل ما ذكره أصحابنا في المسألة ثلاثة أوجهٍ:
          أصحُّها: أنَّ الزِّيادة عليها مكروهةٌ كراهة تنزيهٍ، وهو معنى قول الشَّافعيِّ: لم أَكْرَهُهُ، أي: لم أحرِّمه.
          وثانيها: أنَّها حرامٌ.
          وثالثها: أنَّه خلاف الأولى.
          وأبعدَ قومٌ فقالوا: إنَّه إذا زاد على الثَّلاث يَبْطُل وضوؤه، كما لو زاد في الصَّلاة، حكاه الدَّارميُّ في «استذكاره» عنهم، وهو خطأٌ ظاهرٌ، وخلاف ما عليه العلماء.
          وفي «سنن ابن ماجه» بإسنادٍ ضعيفٍ مِنْ حديث ابن عمر: رأى النَّبيُّ صلعم رجلًا يتوضَّأ فقال: ((لا تُسْرِف، لا تُسْرِف)). ثمَّ ساق مِنْ حديث ابن عمرو أنَّه صلعم مرَّ بسعدٍ وهو يتوضَّأ فقال: ((مَا هَذَا السَّرَف؟)) فقال: أفي الوضوء إسرافٌ؟ قال: ((نَعَم وإنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ)).