التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يقول عند الخلاء

          ░9▒ بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ الخَلاَءِ.
          142- حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلعم إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ قَالَ: (اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ) تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ: إِذَا أَتَى الخَلاَءَ. وَقَالَ مُوسَى عَنْ حَمَّادٍ: إِذَا دَخَلَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ.
          الكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الحديثُ أخرجهُ البُخاريُّ في الدَّعواتِ أيضًا عن ابن عَرْعَرة، عن شُعبة [خ¦6322] وأخرجه مسلمٌ هنا والأربعةُ.
          والتَّعريفُ بِرُواتِه سَلَفَ خَلا (سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ) وهو أبو الحسن أخو حمَّاد / بن زيد الجهضميُّ البصريُّ، رَوَى عن ابن جُدْعان وغيرِه، وعنه عارِمٌ ومسلمٌ، واستشهَدَ به البُخاريُّ، وأخرج له أيضًا أبو داودَ والتِّرمِذِيُّ وابنُ ماجَه، وثَّقه ابنُ مَعين وليَّنَهُ جماعةٌ، ماتَ سنةَ سبْعٍ وستِّينَ ومئة قَبْلَ أخيه حمَّادٍ.
          وأمَّا (مُوسَى) فهو ابنُ إسماعيلَ التَّبُوْذَكِيُّ البصريُّ الحافِظُ الثِّقَةُ الثَّبْتُ، سَلَفَ في الوحْيِ، ولَمَّا ذَكَرَهُ المِزِّيُّ في «تهذيبِه» قال: رَوَى عن حمَّادِ بن زيدٍ يُقال: حديثًا واحدًا، ورَوَى عن حمَّاد بن سَلَمةَ تعليقًا، وقال في آخِرِ ترجمةِ حمَّادِ بن سَلَمَةَ: وقال البُخاريُّ في «الصَّحيحِ»: وقال حمَّادٌ: إذا أقرَّ عندَ الحاكِمِ رُجِمَ، يعني الزاَّني. وروى له مسلمٌ مقرونًا بغيرِه.
          الوجهُ الثَّاني: في ألفاظِه ومعانِيه:
          (كَانَ) في قولِه: (كَانَ إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ) دالَّةٌ على الملازَمَةِ والمداومَةِ.
          ومعنى: (إِذَا دَخَلَ) إذا أرادَه كما صرَّحَ به في روايةِ سعيدٍ، ويَبعُدُ أنْ يُراد به ابتداءُ الدُّخولِ وإنْ أبداهُ القُشَيريُّ احتمالًا، فإنْ كانَ المحلُّ الَّذي يقضِي فيه الحاجةَ غيرَ مُعَدٍّ لذلكَ كالصَّحراءِ مَثَلًا جازَ ذِكْرُ اللهِ تعالى في ذلكَ المكانِ، وإنْ كانَ مُعَدًّا لذلكَ كالكُنُفِ ففِي جوازِ الذِّكْرِ فيه خلافٌ للمالكيَّةِ، فمَنْ كرَههُ أَوَّلَ الدُّخولَ بمعنى الإرادةِ لأنَّ لفظَةَ (دَخَلَ) أقوى في الدِّلالةِ على الكُنُفِ المبنيَّةِ منها على المكانِ البَرَاحِ، أو لأنَّه قد بُيِّنَ في حديثٍ آخَرَ المرادُ حيثُ قال صلعم: ((إنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ)) أي للجانِّ والشَّياطينِ ((فَإِذَا أرَادَ أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ)) ومَن أجازَهُ استغنى عن هذا التَّأويلِ ويَحْمِلُ (دَخَلَ) على حقيقتِها.
          وحديثُ: ((إنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ)) فيه بيانٌ لمناسبةِ هذا الدُّعاءِ المخصوصِ لهذا المكانِ المخصوصِ.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: المعنَى متقاربٌ في قولِه: (إِذَا دَخَلَ) وفي قولِه: (إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ) أَلَا تَرى قولَه تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله} [النحل:98] والمرادُ إذا أردْتَ أن تقرأَ، غيرَ أنَّ الاستعاذةَ بالله مُتَّصِلَةٌ بالقراءَةِ لا زمانَ بينَهُما، وكذا الاستعاذةُ باللهِ مِن الخُبُثِ والخبائثِ لمَنْ أراد الدُّخولَ متَّصلةٌ بالدُّخولِ فلا يَمتَنِعُ مِن إتمامِها في الخَلَاء مع أنَّ روايةَ: (إِذَا أَتَى) أَوْلَى مِن رِوايةِ: (إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ) لأنَّها زيادةٌ فالأخْذُ بها أَوْلَى. قلتُ: في هذا نظرٌ بل رِوايةُ: (إِذَا أَرَادَ) مُبيِّنةٌ لِرِوايةِ: (إِذَا أَتَى).
          الثَّالثُ: (الخَلاَءَ) بفتْحِ الخاء المعجَمةِ وبالمدِّ، موضعُ قضاءِ الحاجةِ، سُمِّيَ بذلِكَ لخَلائه في غيرِ أوقاتِ قضاء الحاجةِ، وهو الكَنِيفُ والحُشُّ والمرفِقُ والمرْحَاضُ أيضًا. وأصلُه المكانُ الخالِي ثُمَّ كَثُرَ استعمالُه حتى تُجُوِّزَ به عن ذلك. وأمَّا الخَلَا _بالقَصْرِ_ فهو الحشيشُ الرَّطْبُ والكلامُ الحسَنُ أيضًا، وقد يكونُ خَلَا مُستعملًا في بابِ الاستثناء، فإن كُسِرت الخاءُ مع المدِّ فهو عيْبٌ في الإبِلِ كالحِرَان في الخَيلِ. وانتصَبَ (الخَلَاءَ) على أنَّه مفعولٌ به لا على الظَّرْفِ.
          الرَّابعُ: (اللهُمَّ) الأفصحُ فيه استعمالُه بالأَلِفِ واللَّامِ كما وقعَ في الحديثِ. و(أَعُوذُ) معناهُ أستجير واعتصم.
          و(الخُبُثِ) بضمِّ الخاء قطعًا، والباءُ مضمومةٌ أيضًا ويجوزُ الإسكانُ _وإن غلَّط الخطَّابيُّ المحدِّثين فيه_ فقد حكاهُ أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سَلَّامٍ وغيرُه، بلْ نقَلَه القاضي عياضٌ عن الأكثرينَ لكنْ لا يُسلَّمُ له ذلك بل الأكثرُ على الضَّمِّ، وهو جَمْعُ خبيثٍ.
          (وَالخَبَائِثِ) جمْعُ خبيثةٍ فكأنَّهُ استعاذَ مِن ذُكْرَانِ الشَّياطينِ وإناثِهم. وفيه أقوالٌ أُخَرُ ذكرْتُها في «شرح العمدة» وأغربُها أنَّه استعاذَ مِن البولِ والغائطِ، وكأنَّه استعاذَ مِن ضرَرِهما، ولا تَبْعُدُ الاستعاذةُ مِن الكفرِ والشَّياطينِ وسائِرِ الأخلاقِ الخبيثةِ والأفعالِ المذمومةِ، وإنَّما جاء بلفْظِ (الخُبُثِ) لِمُجانَسَةِ الخبائثِ.
          الخامِسُ: الظَّاهرُ أنَّ سيِّدَنا رسولَ الله صلعم قال ذلكَ إظهارًا للعبوديَّةِ وتعليمًا للأُمَّةِ، وإلَّا فهوَ صلعم محفوظٌ مِن الجنِّ والإنسِ، وقد ربطَ عِفريتًا على ساريةٍ مِن سواري المسجدِ.
          وفيه دليلٌ على مراقبتِه لربِّهِ ومحافظتِه على ضبْطِ أوقاتِه وحالاتِه واستعاذتِه عندَ ما ينبغي أن يُستعاذَ منه، ونُطْقِه بما ينبغِي أن ينطِقَ به، وسُكوتِه عندَ ما ينبغِي أن يسكتَ عندَهُ، وقد صحَّ أنَّه صلعم كان إذا خرجَ مِن الخَلاءِ قال: ((غُفْرانَكَ)) أي: سألْتُ غفرانَك عن حالةٍ شغَلَتْنِي عن ذِكْرِكَ، فيختم بالذِّكْر كما ابتدأَ به.
وآخِرُ شيءٍ أَنْتَ أَوَّلَ هَجْعَةٍ                     وأوَّلُ شيءٍ أَنْتَ عِنْدَ هُبُوِبي
          وزادَ أبو حاتمٍ في أوَّلِ الذِّكْرِ: ((باسْمِ الله)) فيُسْتَحَبُّ مع التعوُّذِ أيضًا، وصيغةُ التعوُّذِ أعوذُ بالله. وفي مسلمٍ: ((أَعُوذُ بِكَ)) وفي حديثٍ بإسنادٍ ضعيفٍ: ((اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ)) والظَّاهِرُ أنَّه صلعم جَهَرَ بهذِه الاستعاذةِ.
          السَّادسُ: هذه الاستعاذةُ مُجمَعٌ على استحبابِها، وسواءٌ فيها البنيانُ والصَّحراءُ لأنَّه يصيرُ مأوًى لهم بخروجِ الخارِجِ وقبْلَ مفارقَتِهِ أيضًا، لكنْ في «البيانِ» للعمرانيِّ مِن أصحابِنا عن الشَّيخِ أبي حامدٍ الإسْفرايينيِّ أنَّ ذِكْرَ الدُّخولِ مختصٌّ بالبُنيانِ لأنَّ الموضِعَ لم يصِرْ مأوَى الشَّيطانِ بَعْدُ، فلو نَسِيَ التعوُّذَ ودخلَ فذهبَ ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه إلى كراهةِ التَّعوُّذِ، وأجازه جماعة منهم ابنُ عمرَ وقد سلف في البابِ قبْلَه.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: في الحديثِ جوازُ ذِكْر الله على الخَلاءِ، وليسَ كما ذَكَر إذا قلنا إنَّ المرادَ بالدُّخولِ إرادَتُه. قال: وهذا ممَّا اختلَفَ فيه الآثارُ، فرُوِيَ عن النَّبيِّ صلعم ((أنَّه أقبَلَ مِن نحوِ بِئرِ جَمَلٍ فلِقَيهُ رجلٌ فسلَّمَ عليه فلم يردَّ ◙ حتَّى تيمَّمَ بالجدارِ)) واختلَفَ في ذلكَ أيضًا العلماءُ، فرُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه كَرِهَ أن يُذْكَر اللهُ عند الخلاءِ، وهو قولُ عطاءٍ ومجاهدٍ والشَّعبيِّ، وقال عكرمةُ: لا يَذكُرُ اللهَ فيه بلسانِه بل بقلْبِه. وأجازَ ذلكَ جماعةٌ مِن العلماءِ، رَوَى ابنُ وهْبٍ أنَّ عبدَ الله بنَ عمْرِو بنِ العاصي كان يذكُرُ اللهَ في المرحاضِ.
          وقال العَرْزَميُّ: قلتُ للشَّعبيِّ: أعطُسُ وأنا في الخلاءِ، أحمدُ اللهَ؟ قال: لا، حتى تخرُجَ، فأتيتُ النَّخَعيَّ فسألْتُه عن ذلك فقال لي: احمَدِ اللهَ. فأخبرْتُه بقوْلِ الشَّعبيِّ فقال النَّخَعيُّ: إنَّ الحمْدَ يصعَدُ ولا يهبِطُ. وهو قولُ ابنِ سيرينَ ومالكٍ.
          قال ابنُ بطَّالٍ: وهذا الحديثُ حُجّةٌ لمن أجازَ ذلكَ. قلتُ: قد أسلفنا فيه نظرًا. قال: وذَكَرَ البُخاريُّ في كتابِ «خلْقِ أفعالِ العِبَادِ» عن عطاءٍ: الخاتَم فيه ذِكْرُ الله لا بأسَ أن يَدخُلَ به الإنسانُ الكَنِيفَ أو يُلِمَّ بأهْلِه وهو في يدِه لا بأسَ به، وهو قولُ الحسنِ، وذَكَرَ وَكيعٌ عن سعيدِ بنِ المسيِّب مِثْلَهُ.
          قال البُخاريُّ: وقال طاووس في المِنْطَقَةِ تكونُ على الرَّجُلِ فيها الدَّراهمُ / يقضي حاجته: لا بأْسَ بذلك. وقال إبراهيمُ: لا بدَّ للنَّاسِ مِن نفقاتِهم. وأَحَبَّ بعضُ التَّابعينَ ألَّا يَدخُلَ الخلاءَ بالخاتَم فيه ذِكْرُ الله. قال البُخاريُّ: وهذا مِن غيرِ تحريمٍ يَصِحُّ. وأمَّا حديثُ بئرِ جَمَلٍ فإنَّما هو على الاختيارِ والأخْذِ بالاحتياطِ والفضْلِ لأنَّه ليس مِن شرْطِ رَدِّ السَّلامِ أنْ يكونَ على وُضوءٍ، قاله الطَّحاويُّ.
          وقال الطَّبريُّ: إنَّ ذلك منه كان على وجه التَّأديبِ للمُسَلِّمِ عليه ألَّا يُسَلِّمَ بعضُهم على بعضٍ على الحدَثِ، وذلكَ نظيرُ نهْيِه وهُمْ كذلِكَ أن يحدِّثَ بعضُهم بعضًا لقولِه: ((لا يَتَحَدَّثِ الْمُتَغُوِّطَانِ عَلَى طَوْفِهما _يعني حَاجَتِهِما_ فإنَّ اللهَ يَمْقُتُ عَلَى ذلك)).
          وروى أبو عبيدةَ النَّاجي عن الحسنِ عن البَرَاءِ ((أنَّه سلَّم على النَّبيِّ صلعم وهو يَتَوَضَّأُ فلمْ يَرُدَّ عليهِ شيئًا حتَّى فَرَغَ)).