التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان

          ░33▒ بَابُ الْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ شَعَرُ الإِنْسَانِ.
          (وَكَانَ عَطَاءٌ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا الخُيُوطُ وَالحِبَالُ).
          لَمَّا ذَكَرَ البُخاريُّ ☼ شَعْر الإنسانِ استطرَدَ غيرَه فَذَكَرَ ما ذَكَرَهُ عن عطاءٍ أنَّ الشَّعرَ ليس به بأسٌ أنْ يُتَّخَذَ منه الخيوطُ والحِبَال.
          قال الإسماعيليُّ: وقولُه _يعني البُخاريَّ_ في الشَّعْر فيه خلافٌ فإنَّ عطاءً يُروَى عنه نجاسَتُه، ورأى ابنُ المبارك رجلًا أخذَ شَعْرَةً مِن لحيتِه ثُمَّ جعلَها في فِيهِ فقال له: مَهْ، أَتَرُدُّ الْمَيْتَةَ إلى فِيكَ؟! ونقَلَ ابنُ بطَّالٍ عنِ المهلَّبِ بن أبي صُفرةَ أنَّ البُخارِيَّ أراد بهذه التَّرجمةِ رَدَّ قولِ الشَّافِعِيِّ أنَّ شَعرَ الإنسانِ إذا فارقَ الجسدَ نَجِسٌ، وإذا وقَعَ في الماِء نجَّسه. وذَكَرَ قولَ عطاءٍ السَّالِفَ ولَوْ كانَ نَجِسًا لَمَا جازَ اتِّخاذُهُ، ولَمَّا جازَ اتِّخاذُ شَعرِ النَّبي صلعم والتبرُّكُ به عُلِمَ أنَّه طاهرٌ، وعلى قولِ عطاءٍ جمهورُ العلماءِ. هذا كلامُه.
          وأقولُ: الحكايةُ عن الشَّافِعِيِّ بتنجِيسِ شَعرِ الآدميِّ المنفصِلِ مرجوعٌ عنه، فقد رَوَى إبراهيمُ البلدِيُّ عن المزَنيِّ عن الشَّافِعِيِّ أنَّه رجعَ عن تنجيسِ شَعْر الآدمِيِّ، وحكاهُ أيضًا الماوَرْدِيُّ عن ابن سُرَيج عن أبي القاسِمِ الأنْماطِيِّ عن الْمُزَنيِّ عن الشَّافِعِيِّ، وحَكَى الرَّبِيعُ الجِيزِيُّ عن الشَّافِعِيِّ أنَّ الشَّعر تابِعٌ للجِلْدِ يَطْهُر بطهارتِه وينجُسُ بنجاستِه، وصرَّح القاضي أبو الطَّيِّبِ وآخَرون بأنَّ الشَّعر والصُّوفَ والوَبَر والعَظْمَ والقَرنَ والظِّلْفَ تَحُلُّها الحياةُ وتنجُسُ بالموتِ، وهو المذهبُ وهو الَّذي رواه الْمُزَنيُّ والبُويْطِيُّ والرَّبيعُ الْمُرادِيُّ وحَرْمَلةُ.
          ومذهبُ أبي حنيفةَ أنَّ شَعر الآدميِّ المنفصلَ طاهرٌ، وكذا شَعرُ الميتَةِ والأجزاءُ الصُّلبةُ الَّتي لا دَمَ فيها كالقَرْنِ والعَظْمِ والسِّنِّ والحافِرِ والظِّلْفِ والخُفِّ والشَّعرِ والوَبَرِ والصُّوفِ والعَصَبِ والرِّيشِ والإِنْفَحَةِ الصُّلْبَةِ، قالَه في «البدائعِ» وكذا مِن الآدمِيِّ على الأصحِّ، ذكره في «المحيطِ» و«التُّحفَةِ» وفي «قاضي خان»: على الصَّحيحِ ليستْ بِنَجِسَةٍ عندَنَا.
          وقد وافق أبا حنيفةَ على صُوفِها وشَعرِها وَوَبَرِها وريشِها مالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ والْمُزَنِيُّ، وهو مذهبُ عُمَرَ بن عبد العزيزِ والحسنِ وحمَّادٍ وداودَ في العظْمِ أيضًا، ونَقَلَ في «الإشراف» عن أبي حنيفةَ وأبي يوسُفٍ: لا خَيْرَ في شعورِ بني آدمَ ولا يُنتفَعُ بها، وحكى العَبدَريُّ عن الحسنِ وعطاءٍ والأوزاعيِّ واللَّيثِ أنَّها تنجُسُ بالموتِ لكنْ تَطْهُرُ بالغَسْلِ.
          وأمَّا شَعرُ سيِّدِنا رسولِ الله صلعم فالمذهبُ الصَّحيحُ القطْعُ بطهارتِه وإنْ خالفْنَا في شَعرِ غيرِه لِعِظَمِ مرتبَتِهِ، ومَن خالف فيه قالَ: إنَّما قَسَمَ شَعرَهُ ◙ للتَّبَرُّكِ ولا يتوقَّفُ التَّبَرُّكُ على كونِه طاهِرًا، كذا قاله الماوَرْدِيُّ وآخرونَ، قالوا: ولأنَّ القَدْر الَّذي أُخِذَ كان يسيرًا معفوًّا عنه.
          فَرْعٌ: في بولِه ودمِه وجهانِ والألْيَقُ الطَّهارةُ، وذَكَرَ القاضي حُسين في العَذِرَةِ وجهينِ وأنكَرَ بعضُهُم على الغَزَاليِّ حكايتَهُما فيها، وزَعَمَ نجاسَتَها بالاتِّفاقِ وتخصيصَ الخلافِ بالبَوْلِ والدَّمِ، وليس كذلكَ فالخلافُ فيها مشهورٌ، وقد بسَطْتُ ذلكَ في كتابِنَا «غايةُ السُّولِ في خصائصِ الرَّسولِ» فليُرَاجَعْ منه.
          قال البُخاريُّ: (وَسُؤْرِ الكِلاَبِ وَمَمَرِّهَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَكْلِهَا).
          هو بالخفْضِ عطفًا على (بَابُ) أي بابُ الماءِ الذي يُغسَلُ به شَعرُ الإنسانِ وبابُ سُؤرِ الكلابِ، وفي بعْضِ النُّسَخِ جمعَهُمَا في موضِعٍ واحدٍ. وهذهِ اللَّفْظَةُ وهي قولُه: (وَأَكْلِهَا) ساقِطَةٌ في بعْضِ النُّسَخِ، وقَصَدَ البُخاريُّ بذلكَ إثباتَ طهارةِ الكَلْبِ وطهارةِ سُؤرِه.
          قال الإسماعيلِيُّ: أُراهُ نَحَا ذلكَ بِما ذَكَرَهُ مِن الأخبارِ، لكنَّ في الاستدلالِ بها على طهارةِ الكلبِ نظرًا.
          والسُّؤْرُ مهمُوزٌ على الأفصَحِ، ما بَقِيَ مِن الشَّرابِ وغيرِه في الإناءِ.
          قال البُخاريُّ: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِذَا وَلَغَ فِي الإِنَاءِ لَيْسَ لَهُ وَضُوءٌ غَيْرُهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ)
          هذا قالَه مالكٌ أيضًا والأوزاعِيُّ، وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابُهُ إلى نجاسَتِهِ وكذا اللَّيثُ والشَّافِعِيُّ وأحمدُ وأبو ثَوْرٍ.
          (قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا الفِقْهُ بِعَيْنِهِ، يَقُولُ اللهُ ╡: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] وَهَذَا مَاءٌ، وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ، يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ) وافَقَهُ ابنُ مَسْلَمَةَ وابنُ الماجِشُون وجعلُوهُ كالمشكُوكِ فيه. وحَكَى الطَّحاويُّ عن الأوزاعِيِّ أنَّ سُؤْرَ الكلبِ في الإناءِ نجِسٌ، وفي الماءِ الْمُسْتَنْقِعِ ليسَ بَنَجِسٍ، وسيأتي الخوضُ في ذلك بعدُ.