التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

سورة سبأ

          ░░░34▒▒▒ (سُورَةُ سَبَإٍ)
          ذكر ابْن إسحاق أنَّ سبأ اسُمه: عبد شمس، وهو أوَّل مَن تتوَّج مِن ملوك العرب، وأوَّل مَن سَبى، فسُمِّي سَبًأ، قال السُّهيلي: ولستُ (1) مِن هذا الاشتقاق على يقين، لأنَّ سبأ مهموز والسَّبي غير مهموز. وقال الكلَبي: اسمه عامر. وفي الترمذي مرفوعًا أنَّ سبأ: ((رَجُلٌ وَلَدَ عَشْرَةً مِنَ العَرَبِ، فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ (2) أَرْبَعَةٌ، لَخْمٌ، وَجُذَامُ، وَغَسَّانُ، وَعَامِلَةُ. والأوَّلُونَ (3): الأُزْدُ، وَالأَشْعَرِيُّونَ، وَحِمْيَرٌ، وَكِنْدَةُ (4)، وَمَذْحِجٌ، وَأنْمَارٌ)). فَقَالَ رَجُلٌ: وَمَا أَنْمَارٌ؟ قَالَ: ((الَّذِينَ فيهمْ خَثْعَمُ، وَبَجِيلَةُ)). ثمَّ قال: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وأخرجه في «المستدرك» مِن حديث عبد الرَّحمن بن وعلة (5)، وعن ابن عبَّاس بمثله، ثمَّ قال: صحيح الإسناد.
          قوله: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لاَ يَعْزُبُ}[سبأ:3] لاَ يَغِيبُ) هذا أسندَه ابن أبي حاتم مِن حديث أبي يحيى (6)، عن مجاهد، عن ابن عباس. وأسند أيضًا مِن حديث ابن أبي نَجيح، عن مجاهد ما ذكره مِن أنَّ ({العَرِمِ}[سبأ:16] مَاءٌ أَحْمَرُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ فِي السُّدِّ) فهدم إلى آخر مَا يأتي ذِكره.
          قوله: ({العَرِمِ}[سبأ:16] مَاءٌ أَحْمَرُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ فِي السُّدِّ، فَشَقَّهُ وَهَدَمَهُ، وَحَفَرَ الوَادِيَ) قال المفسِّرون في {العَرِمِ} أربعة أقوال:
          أحدها: أنَّه المُسَنَّاة والسِّكر، كانت لهم مُسَنَّاة تَحبس الماء، ولها ثلاثة أبواب، _بعضها فوق بعض، يجتمع الماء إليها مِن الشَّحر (7) وهو وادٍ باليمن_ فيَسقون مِن الباب الأعلى، ثمَّ مِن الثَّاني والثَّالث، فلا ينفذ حتَّى يثوب (8) الماء مِن السَّنة القابلة. وأضاف السَّيل إلى {العَرِمِ} لأنَّه بخرابه (9) جاء السَّيل، يعني أزلنا (10) مَا كانوا يحبسون به ذلك الماء.
          والثاني: أنَّ {العَرِمِ} صفة السَّيل، مِن العَرامة، وهو الشدَّة، أي سيلًا لا يمتنع منه شيء، و{العَرِمِ}المطر / الشديد.
          والثالث: أنَّ {العَرِمِ} اسم للوادي، وأضاف السَّيل إليه لأنَّه جاء مِن قِبله (مَاءٌ أَحْمَرُ) فكان سبب الخراب.
          والرابع: أنَّ {العَرِمِ} الخُلْد، وهو الجِرْذ الأعْمى، نقب السِّكْر مِن أسفله، فسال منه الماء، فخَرِبت جنَّاتهم، وملأها رَملًا. وقيل: غاص الماء في الأرض فجفَّت (11) جنَّاتهم وخربتْ، وذهبت أنهارها، وهو: قوله: (فَارْتَفَعَتَا عَنِ الجَنَّتَيْنِ) (12) الجنَّتان اللتَّان يحبسان الماء ليجري على ... (13) على الجنتين، يعني فانقطع الماء عنها وغاصَ في الأرض (فَيَبِسَتَا).
          قال الكِرْمَاني: إن قلت: القياس أن يُقال: ارتفعتِ الجنَّتان عن الماء؟ وأجاب بأنَّ المراد مِن الارتفاع الانتفاء والزَّوال، يعني ارتفع اسم الجنَّة عنهما، فتقديره: ارتفعت الجنتان عن كونهما جنَّة.
          قوله: (وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ: الْعَرِمُ الْمُسَنَّاةُ بِلَحْنِ أَهْلِ الْيَمَنِ) هو بفتح الحاء المهملة _أي بلغتهم_ وواحد {العَرِمِ} عرمة، وكأنَّه أخذه مِن عرامة الماء، وهو ذهابه كلَّ مذهب، و(الْمُسَنَّاةُ) ما يُبنى في عرض الوادي المرتفع (14) السَّيل ليحبس الماء، وضُبط عند الأكثر بضمِّ الميم وتشديد النُّون، وللأَصِيلي بفتح الميم وسكون السِّين وتخفيف النُّون، وقول عمرو بن شَرَحْبيل هذا أسنده عبد بن حُميد عن يحيى بن عبد الحميد عن شَريك عن أبي إسحاق عنه، وقال: ((بلسان اليمن)) بدل ((بلحن اليمن)).
          قوله: (وَقَالَ غَيْرُهُ: {العَرِمُ} الوَادِي) هو قول عطاء، وفيه قول آخر أنَّه اسم الجِرْذ الَّذي أُرسل عليهم وخرَّبَ السَّدَّ، وفي لفظ آخر أنَّه المطر، وفي آخر أنَّه الماء الكثير، وقيل: إنَّه صفة السِّيل مِن العَرامة، وهو ذهابه كلَّ مذهب. وقال أبو حاتم: هو جمع لا واحد له مِن لفظه.
          و(الْمُسَنَّاةُ) (15) بضم الميم وتشديد النون، في أكثر الروايات، وفي أكثر كتب اللُّغة، وضُبط في رواية الأَصِيْلي بفتح الميم وسكون السِّين وتخفيف النًّون.
          تنبيه (16): {العَرِمِ} (مَاءٌ أَحْمَرُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ فِي السُّدِّ، فَشَقَّهُ) كذا لأكثرهم، ولأبي ذر: <فَبَثَقَه> وهو الوجه، يُقال: بثقتُ النَّهر إذا كسرتَه لتصرفه عن مجراه. وقال السُّهيلي في «الرَّوض»: في {العَرِمِ} أقوال، وذكر مَا قدَّمناه، ونسب إلى قتادة أنَّه (الْمُسَنَّاةُ)، أي السَّدَّ، وإلى عطاء أنَّه (الوَادِي)، وقيل: الجِرْذ، وقيل: صِفة للسَّيل مِن العرامة وهو الشدَّة، ثمَّ ذكر ما أورده البخاري، ثمَّ قال: ويقوي أنَّه السَّيل قول الأعشى:
وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ                     ومأرِبُ عَفَّى (17) عَلَيْهَا العَرِمْ
          وأبينُ شاهد على أنَّ{العَرِمِ} هو السَّدُّ قولُ أميَّة بن أبي الصَّلْت:
مِنْ سَبَأِ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ (18) إذْ                     يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ الْعَرِمَا
          وكان هذا السَّدُ بناه سبأ بن يشجب، وساق إليه سبعين واديًا، ومات ولم يتمَّه، فأتمَّه بعده (19) ملوك حِمير، وقال المسعودي: بناه لقمان بن عاد، وجعله فَرْسخًا، / في فرسخ، وجعل له ثلاثين مثقبًا.
          قوله: (وَحَفَرَ الوَادِيَ، فَارْتَفَعَتَا عَنِ الجَنَّتيْنِ) قيل: صَوابه: (يعني الجَنَّتيْنِ) بدل (عن)، وكذا (20) وهو في بعض النُّسخ في رواية أبي ذرٍّ.
          قوله: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يُجَازَى (21)}[سبأ:17] يُعَاقَبُ) أسنده ابن أبي حاتم مِن حديث ابن أبي نَجيح عنه، وقال طاوس _فيما ذكره عبدٌ_: هي المناقشة، يعني الحساب، يقول: مَن حُوسِب عُذِّب، وهو الكافر لا يُغفر له.
          قوله: ({التَّنَاوُشُ}[سبأ:52] الرَّدُّ مِنَ (22) الآخِرَةِ إِلَى الدُّنْيَا) يشير إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}[سبأ:52]. أي قالوا عند معاينة أهوال الموت، وقيل: عند عذاب القبر، وقيل: البعث والقيامة، أي: آمنَّا بالله، وقيل: بمحمَّد. {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} أي: كيف يتناولون الإيمان، وقد ذهب مكان التكليف وزمانه؟! والتناوش التناول مِن ناش الشيء نوشًا، إذا رفعه، قال ثعلب: التَّناوش بالواو تناول الشَّيء مِن قُرب، والتَّناؤش بالهمز تناوله مِن بعد.
          قوله: (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كَالْجَوَابِ}[سبأ:13] كَالْجَوْبَةِ مِنَ الأَرْضِ) قيل: أصله في اللُّغة مِن الجابية، وهو الحوض الَّذي يُجبى فيه الشَّيء، أي: يُجمع، ويُقال: إنَّه كان (23) يأكل مِن كلِّ جفنة منها ألف رجل. فوزنُ (جَوَابِي) على هذا فواعل، لأنَّ عين الفعل في (الْجَوْبَةِ) واو، والجوبةُ المطمئنُّ (24) مِن الأرض، فلعلَّ ابن عباس إنَّما شبَّه الجابية بالجوبة، ولم يرد أنَّ اشتقاقهما واحد (25) لأنَّ عين الفعل _كما قدَّمناه_ واو، وأصله جاب يجوب، وحُذفت الياء مِن (الْجَوَابِي) تخفيفًا؛ وأثر ابْن عباس هذا أسنده ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي صالح، عن معاوية، عن عليٍّ به (26).
          قوله: ({مَثْنَى وَفُرَادَى}[سبأ:46] وَاحِدٌ وَاثْنَيْنِ) صوابه: واحدًا واحدًا (27)، واثنين اثنين (28).


[1] في الأصل:((ونسب))، والتصويب من «الروض الأنف» للسهيلي.
[2] قوله:((منهم)) ليس في الأصل.وهي من «سنن الترمذي»، أبواب التفسير، باب ومن سورة سبأ.
[3] وفي «سنن الترمذي»:((وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا فَالأُزْدُ .).).
[4] وفي «سنن الترمذي» ذكر هذه القبيلة آخرًا.
[5] رسمها في الأصل:((علية)) بدون نقط، وزاد واو عطفٍ قبل((عن ابن عباس)).والتصويب من «المستدرك» للحاكم، في تفسير سورة سبأ.
[6] في الأصل:((يعلى))، والتصويب من «تفسير ابن أبي حاتم» في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} [يونس: 61].
[7] في الأصل:((الشجر))، أو نحوها، والتصويب من «الوسيط» للواحدي، و«التحرير» لابن عاشور؛ و(الشحر) على ساحل حضرموت على بحر العرب، وفي «تفسير الثعلبي» و«البسيط» للواحدي كلاهما:(الشجر)، وفي «تفسير القرطبي»:(البحر)، وفي «البحر المديد» لابن عجيبة:(الصخر)، ووضعت الكلام فوق بين شرطتين، لأن ما قبله من قوله:((تحبس الماء)) وما بعده إلى قوله:((القابلة)) أصله في «معاني القرآن» للفراء.
[8] في الأصل:((يسور))، والتصويب من «معاني القرآن» للفراء، في تفسير سورة سبأ، وراجع التفاسير السابقة.
[9] كذا قرأتها، وهي في الأصل غامضة.
[10] كذا قرأتها، وهي في الأصل غامضة.
[11] كذا قرأتها، وهي غير واضحة الحروف في الأصل.
[12] كذا في الأصل:((الجنتين)) تثنية الجنة، وفي نسخ الجامع الصحيح(الجنبتين) بزيادة الموحدة التحتية، وسيعيد المصنف الكلام عليها.
[13] في الأصل كلمة تعذرت قراءتها علي.
[14] كذا في الأصل:((المرتفع)) معرفًا بالألف واللام، وفي «التنقيح» للزركشي:(لمرتفع).وفي «التوضيح» لابن الملقن:(ليرتفع) بلام الجر التعليلية، ولعل الأخير أقربها، والله تعالى أعلم.
[15] كذا في الأصل، وهو إعادة لضبط((المسناة)) بعد تجاوز مكانها، كأن النسخة مسوّدة لم يبيّضها المؤلف.
[16] كذا في الأصل، والمستعمل هنا عادة لفظ:((قوله)).
[17] في الأصل:((على))، والتصويب من «الروض» للسهيلي، وهي في «ديوان الأعشى»:(قفَّى) بالقاف.
[18] قوله:((مأرب)) ليس في الأصل.وهو من «الروض» للسهيلي، وضبطها بالنصب على الإبدال، وهي في «ديوان النابغة الجعدي»:(مأربُ)، بالرفع على الخبر، ولم أجدها في المطبوع من «ديوان أمية بن أبي الصلت»، وقد ذكر السهيلي أنها تروى للنابغة الجعدي.
[19] في الأصل:((بعد)).
[20] غير واضحة في الأصل، والتصويب من «التنقيح» للزركشي.
[21] رواية حفص عن عاصم بالنون وكسر الزاي والياء.
[22] في الأصل:((في)).
[23] قوله:((ويقال إنه كان)) ليس في الأصل.وهو من «التوضيح»، لابن الملقن.
[24] في الأصل:((كالمطمئن)).
[25] قوله:((واحد)) ليس في الأصل.وهو من «التنقيح» للزركشي.
[26] كذا في الأصل.وهي غير واضحة.
[27] في الأصل:((واحد وواحد)) بدون علامة النصب، والصواب المثبت فوق كما في «التنقيح» للزركشي.
[28] في الأصل:((واثنين واثنين)).