شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الفرق

          ░70▒ باب: الفَرْقِ.
          فيه ابْنُ عَبَّاسٍ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ أَشْعَارَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُؤُوسَهُمْ، فَسَدَلَ النَّبِيُّ صلعم نَاصِيَتَهُ، ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ). [خ¦5917]
          وفيه عَائِشَةُ قَالَتْ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى وَبِيصِ الطِّيبِ في مَفَارِقِ النَّبِيِّ صلعم وَهُوَ مُحْرِمٌ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: في مَفْرِقِ النَّبِيِّ صلعم). [خ¦5918]
          قال المؤلِّف(1): فرق شعر الرأس سُنَّةٌ، وروى ابن وهبٍ عن أسامة بن زيدٍ: أنَّ عُمَر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسًا يجزُّون كلَّ من لم يفرق شعره.
          قال مالكٌ: ورأيت عامر بن عبد الله بن الزبير(2) وربيعة بن أبي عبد الرحمن وهشام بن عروة يفرقون شعورهم، وكانت لهشامٍ جمَّةٌ إلى كتفيه.
          فإن قال قائلٌ: قول ابن عبَّاسٍ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ) يعارض قول النبي صلعم: ((إنَّ اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)).
          فالجواب: أنَّ حديث ابن عبَّاسٍ يحتمل أن يكون في أوَّل الإسلام في وقت قوي فيه طمع النبيِّ صلعم برجوع أهل الكتاب وإنابتهم إلى الإسلام، وأحبَّ موافقتهم على وجه التألُّف لهم والتأنيس، مع أنَّ أهل الكتاب كانوا أهل شريعةٍ، وكان المشركون لا شريعة لهم، فسدل صلعم ناصيته، إذ كان ذلك مباحًا له(3) لأنَّه لم يأته نهيٌ عن ذلك، ثمَّ أراد الله تعالى نسخ السدل بالفرق فأمر نبيَّه صلعم بفرق شعره وتركِ موافقة أهل الكتاب، والحديث يدلُّ على صحَّة هذا، وهو قول ابن عبَّاسٍ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ) و(كَانَ) إخبارٌ عن فعل متقدِّمٌ، وقوله: (ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ) إخبارٌ عن فعلٍ متأخِّرٍ وقع منه صلعم بمخالفة أهل الكتاب، وهذا هو النسخ بعينه؛ وهو كقوله(4) صلعم: ((إنَّ اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))، فأمر بمخالفتهم أمرًا عامًّا.


[1] قوله: ((قال المؤلف)) ليس في (ت) و (ص).
[2] في (ت) و (ص): ((ورأيت عامر بن الزبير)).
[3] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[4] في (ت): ((بعينه لقوله))، و في (ص): ((بعينه كقوله)).