شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب لبس الحرير وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه

          ░25▒ بَابُ لُبْسِ الحَرِيرِ لِلرِّجَالِ وَافْتِرَاشِهِ لِلرِّجَالِ، وَقَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنْهُ.
          فيه أبو(1) عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: (أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ(2) فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ إِلا هَكَذَا _وَأَشَارَ بِإصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإبْهَامَ_ قَالَ: فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يعني الأعْلامَ). [خ¦5828]
          وَقَالَ مَرَّةً: (إِنَّ عُمَر كَتَبَ إلى عُتْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: لا يُلْبَسُ الْحَرِيرُ في الدُّنْيَا، إِلَّا لَمْ يُلْبَسْ(3) في الآخِرَةِ مِنْهُ(4)). [خ¦5830]
          وفيه حُذَيْفَةُ: (أَنَّهُ اسْتَسْقَى بِالْمَدَايِنِ(5) فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ في إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَرَمى بِهِ، وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلَّا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ(6)، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ هِي لَهُمْ في الدُّنْيَا وَلَكُمْ في الآخِرَةِ). [خ¦5831]
          وفيه أَنَسٌ: عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ في الدُّنْيَا لم يَلْبَسَهُ في الآخِرَةِ، قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: أَعَنِ النَّبِيِّ صلعم؟...) الحديث. [خ¦5832]
          وفيه ابْنُ عُمَر عن عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صلعم: (إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ في الدُّنْيَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ في الآخِرَةِ). [خ¦5835]
          قال الطبريُّ: اختلف أهل العلم في معنى هذه الأخبار، فقال بعضهم بعموم خبر عمر، عن النبيِّ صلعم أنَّه(7) قال: (إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ في الدُّنْيَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ في الآخِرَةِ(8))، وقال: الحرير كلُّه حرامٌ، قليله وكثيره، مُصْمَتًا كان أو غير مُصْمَتٍ، في الحرب وغيرها، على الرجال والنساء؛ لأنَّ التحريم بذلك / قد جاء عامًّا، فليس لأحدٍ أن يخصَّ منه شيئًا؛ لأنَّه لم يصحَّ بخصوصه خبرٌ.
          وقال آخرون: بل هذه الأخبار التي وردت عن النبيِّ صلعم بالنهي عن لبس الحرير أخبارٌ منسوخةٌ، وقد رخَّص فيه رسول الله صلعم بعد النهي عن لبسه وأذن لأمَّته فيه.
          وقال آخرون ممَّن قال بتحليل لبسه: ليست هذه الأخبار منسوخةً، ولكنَّها بمعنى الكراهة لا بمعنى(9) التحريم.
          وقال آخرون: بل هذه الأخبار وإن كانت وردت بالنهي عن لبس الحرير فإنَّ المراد بها الخصوص، وإنَّما أريد بها الرجال دون النساء، وما عني به الرجال من ذلك فإنَّما هو ما كان منه حريرًا مُصْمَتًا، فأمَّا ما اختلف سداه ولحمته أو كان عَلَمًا في ثوبٍ فهو مباحٌ.
          وقال آخرون ممَّن قال بخصوص هذه الأخبار: إنَّما عني بالنهي عن لبس الحرير في غير لقاء العدوِّ، فأمَّا عند لقاء العدوِّ فلا بأس بلبسه مباهاةً وفخرًا.
          ذِكرُ بعض(10) من قال: إنَّ النهي عن الحرير على العموم:
          روى مجاهدٌ عن ابن عمر قال: اجتنبوا من الثياب ما خالطه الحرير.
          وروى عطاءٌ، عن عبد الله مولى أسماء قال: أرسلت أسماء إلى ابن عمر أنَّه بلغني أنَّك تحرِّم العلم في الثوب، فقال(11): إنَّ عمر حدَّثني أنَّه سمع النبيَّ صلعم يقول: ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة))، وأخاف أن يكون العَلَم في الثوب من لبس الحرير.
          وقال(12) أبو عَمْرٍو الشيبانيُّ: رأى عليُّ بن أبي طالبٍ على رجلٍ جبَّة طيالسةٍ قد جعل على صدره ديباجًا، فقال: ما هذا النتن تحت لحيتك(13)، قال: لا تراه عليَّ بعدها.
          وعن أبي هريرة أنَّه رأى على رجلٍ لَبِنة حريرٍ في قميصه فقال: لو كانت برصًا لكان خيرًا له.
          وعن عَمْرو بن مرَّة قال: رأى حذيفة على رجلٍ طيلسانًا فيه أزرار ديباجٍ فقال: تتقلَّد قلائد الشيطان في عنقك! وعن الحسن البصريِّ أنَّه كان يكره قليل الحرير وكثيره للرجال والنساء حتَّى الأعلام في الثياب.
          وكره ابن سيرين العَلَم في الثوب وقال: الدليل على عموم التحريم قوله صلعم: (مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ).
          ومن قال: المراد بالنهي عن لباس الحرير الرجال دون النساء ورخَّص في الأعلام.
          روي عن حذيفة أنَّه رأى صبيانًا عليهم قُمُص حريرٍ، فنزعها عنهم وتركها على الجواري.
          وعن ابن عمر: أنَّه كان يكره الحرير للرجال، ولا يكره(14) للنساء، وعن عطاءٍ مثله.
          واحتجَّ الذين أجازوه للنساء بما رواه عبيد الله بن عُمَر، عن نافعٍ، عن سعيد بن أبي هندٍ، عن أبي موسى الأشعريِّ قال: قال رسول الله صلعم: ((أحِلَّ لإناث أمَّتي الحرير والذهب، وحرِّم على ذكورهم))، وكان ابن عبَّاسٍ لا يرى بأسًا بالأعلام، وقال عطاءٌ: إذا كان العَلَم إصبعين أو ثلاثةً مجموعةً فلا بأس به.
          وكان عُمَر بن عبد العزيز يلبس الثوب سداه كتَّان ولحمته(15) حريرٌ، وأجازه ابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة: لا بأس بالخزِّ وإن كان سداه إِبرَيْسَمَ، وكذلك لا بأس بالخزِّ وإن كان مبطَّنًا بثوبٍ حريرٍ؛ لأنَّ الظاهر الخزُّ وليس الظاهر الحرير، ولا بأس بحشو القزِّ.
          وقال الشافعيُّ: إن لبس رجلٌ قَبَاءً محشوًّا قزًّا فلا بأس به؛ لأنَّ الحشو باطنٌ، وإنَّما كره إظهار القزِّ للرجال، وكان النَّخَعِيُّ يكره الثوب سداه حريرٌ، وقال طاوسٌ: دعه لمن هو أحرص عليه، وسئل الأوزاعيُّ عن السِّيجَان الواسطيَّة التي سداها قزٌّ، فقال: لا خير فيها.
          قال غير الطبريِّ: وكان مالكٌ يعجبه ورع ابن عمر؛ فلذلك كره لباس الخزِّ، قال مالكٌ: إنَّما كُرِه الخزُّ؛ لأنَّ سداه حريرٌ.
          ذكرُ من قال: إنَّ الأخبار الواردة بتحريم لبس الحرير منسوخةٌ بإذنه للزبير بن العوَّام(16) في ذلك، وأنَّ لباسه جائزٌ في الحرب وغيرها.
          روى معمرٌ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ قال: لقي عمر عبد الرحمن بن عوفٍ، فجعل ينهاه عن لبس الحرير، فجعل(17) عبد الرحمن يضحك، وقال: لو أطعتنا(18) لبسته معنا.
          وروى شعبة عن أبي بكر بن حفصٍ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: شهدت عُمَر بن الخطَّاب وعبد الرحمن بن عوف وعليه / قميص حريرٍ، فقال: يا عبد الرحمن، لا تلبس الحرير والديباج، فإنَّه ذُكِر لي أنَّ من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، فقال عبد الرحمن: والله إنِّي لأرجو أن ألبسه في الدنيا والأخرة.
          وروى ابن أبي ذئبٍ عن سفينة مولى ابن عبَّاسٍ قال: دخل المِسوَر بن مَخْرَمة على ابن عبَّاسٍ يعوده، وعلى ابن عبَّاسٍ ثوب إستبرقٍ، وبين يديه كانونٌ عليه تماثيل فقال: ما هذا اللباس عليك؟ قال: ما شعرت به وما أظنُّ النبيَّ صلعم نهى(19) عنه إلَّا للتكبُّر والتجبُّر، ولسنا كذلك بحمد الله، قال: وما هذه التماثيل؟ قال: أما(20) تراها قد أحرقناها بالنار، فلمَّا خرج المسور قال ابن عبَّاسٍ: ألقوا هذا الثوب عنِّي، واكسروا هذه التماثيل، وبيعوا هذا الكانون.
          وعن جبير بن حيَّة أنَّه اشترى جاريةً عليها قَباءٌ من ديباجٍ منسوجٌ بذهبٍ، فكان يلبسه، فكأنَّ أصحابه عابوا عليه ذلك، فقال: إنَّه يدفِّئني، وألبسه في الحرب.
          قال الطبريُّ: والصواب في حديث عمر عن النبيِّ صلعم أنَّه على الخصوص، وقوله: (إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ) يعني: من الحرير المُصمَت من الرجال، في غير حال المرض والحرب، لغير ضرورةٍ دعته إلى لبسه تكبُّرًا واختيالًا في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ولباس ذلك كذلك لباس من لا خلاق له.
          وإنَّما قلنا عنى به من الحرير المُصمَت؛ لقيام الحجَّة بالنقل الذي يمتنع منه الكذب أنَّه لا بأس بلبس الخزِّ(21)، والخزُّ لا شكَّ سداه حريرٌ ولحمته وبرٌ، فإذا كانت الحجَّة ثابتةً بتحليله فسبيل كلِّ ما اختلف سداه ولحمته سبيل الخزِّ، أَّنه لا بأس بلبسه(22) في كلِّ حالٍ للرجال والنساء، وإنَّما قلنا عنى به ما كان ثوبًا دون ما كان عَلَمًا في ثوبٍ، لصحَّة الخبر عن رسول الله صلعم(23) أنَّه استثنى من الحرير _إذ نهى عن لبسه_ ما كان منه قدر أصبعين أو ثلاثٍ أو أربعٍ.
          وقلنا عنى(24) به من لم تكن به علَّةٌ تضطرة إلى لبسه؛ لصحَّة الخبر عن النبيِّ صلعم أنَّه ارخص للزبير بن العوَّام في الحرير ولعبد الرحمن(25) بحكَّةٍ كانت بجلودهما، فكان معلومًا بذلك؛ إذ كلُّ علَّةٍ كانت بالإنسان يرجى بلبس الحرير خفَّتها أنَّ له لبسه معها، وأنَّ من قصد إلى دفع ما هو أعظم أذًى من الحِكَّة وذلك كأسلحة العدوِّ، أنَّ له من ذلك ما كان لعبد الرحمن والزبير بسبب الحِكَّة.
          وقلنا: الخبر خاصٌّ للرجال دون النساء؛ لصحَّة خبر أبي موسى عن النبيِّ صلعم أنَّه قال: ((الحرير والذهب(26) حرامٌ على ذكور أمَّتي، حِلٌّ لإناثها)).
          فبان أنَّ جميع الأخبار المرويَّة في الحرير غير دافعٍ منها خبرٌ(27) غيره، ولا ناسخَ فيها ولا منسوخَ، ولكن يعضد بعضها بعضًا، وقد تقدَّم في كتاب الجهاد واختلاف العلماء في لباس الحرير في الحرب. [خ¦2919]
          قال الطبريُّ: واختلفوا في قوله: (إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ في الآخِرَةِ) وقال آخرون: ما له في الآخرة من جهةٍ، وقال آخرون: ما له في الآخرة من قوامٍ، وقال آخرون(28): ما له في الآخرة من دينٍ، ومن لبسه لباس اختيالٍ وتكبُّرٍ دون ضرورةٍ تدعو إلى لباسه فهو الذي لا خلاق له في الآخرة.
          وقال غير الطبريِّ: قوله: (إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ في الآخِرَةِ) يعني: أنَّه من لباس المشركين في الدنيا؛ فينبغي أن لا يلبسه المؤمنون.


[1] قوله: ((أبو)) زيادة من (ت) و (ص).
[2] قوله: ((ابن)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((يلبسه)).
[4] قوله: ((منه)) زيادة من (ت) و (ص).
[5] قوله: ((بالمداين)) ليس في (ت) و (ص).
[6] قوله: ((فلم ينته)) ليس في (ت) و(ص).
[7] في (ت): ((إنما)).
[8] قوله: ((قال الطبري: اختلف أهل...... مَنْ لا خَلاقَ لَهُ في الآخِرَةِ)) ليس في (ص).
[9] في (ت): ((معنى)).
[10] قوله: ((بعض)) ليس في (ص).
[11] في (ت) و (ص): ((قال)).
[12] في (ت) و (ص): ((قال)).
[13] في (ص): ((لحييك)).
[14] في (ص): ((ولا يكرهه)).
[15] في (ت) و (ص): ((وقيامه)).
[16] في (ز): ((للزبير والعوام)) والمثبت من (ت) و(ص).
[17] في (ت) و (ص): ((وجعل)).
[18] في (ت): ((اطلعتنا)).
[19] قوله: ((نهى)) ليس في (ص).
[20] في (ص): ((ما)).
[21] في (ت): ((الحرير)).
[22] في (ت) و (ص): ((به)).
[23] في (ت) و (ص): ((عن النبي ◙)).
[24] قوله: ((عنى)) ليس في (ص).
[25] في (ص): ((وعبد الرحمن)).
[26] في (ص): ((الذهب والحرير)).
[27] في (ص): ((خبراً)).
[28] قوله: ((وقال آخرون: ما له في الآخرة.... وقال آخرون)) ليس في (ص).