شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الخضاب

          ░67▒ بَابُ الخِضَابِ
          فيه أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ). [خ¦5899]
          قال الطبريُّ: إن قال قائلٌ: ما معنى هذا الحديث(1)؟ وقد روى شعبة عن الرُّكَين بن(2) الربيع قال: سمعت القاسم بن محمَّد يحدِّث عن عبد الرحمن(3) بن حرملة، عن ابن مسعودٍ: ((أنَّ رسول الله صلعم كان يكره تغيير الشيب)).
          روى ابن إسحاق عن عَمْرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((من شاب شيبةً في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة إلَّا أن ينتفها أو يخضبها)).
          قيل: قد اختلف السلف قبلنا في تغيير الشيب، فرأى بعضهم أنَّ أمر النبيِّ صلعم بصبغه نَدبٌ، وأن تغييره أولى من تركه أبيض.
          ذكر من رأى ذلك: روي عن قيس(4) بن أبي حازمٍ قال: كان أبو بكرٍ الصدِّيق يخرج إلينا وكأنَّ لحيته ضِرام العَرفَج من الحنَّاء والكَتَم، وعن أنسٍ أنَّ أبا بكرٍ وعمر كانا يخضبان بالحنَّاء والكَتَم، وكان الشعبيُّ وابن أبي مُلَيكة يخضبان بالحنَّاء والكَتَم(5)، وعن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه كان يأمر بالخضاب(6) بالسواد ويقول: هو أسكن للزوجة وأهيب للعدوِّ، وعن ابن أبي مُلَيكة أنَّ عثمان كان يخضب بالسواد، وعن عقبة بن عامرٍ والحسن والحسين أنَّهم كانوا يخضبون بالسواد، ومن التابعين: عليُّ بن عبد الله بن عبَّاسٍ وعروة بن الزبير وابن سيرين وأبو بردة.
          وروى ابن وهبٍ عن مالكٍ قال: لم أسمع في صبغ الشعر بالسواد بنهيٍ معلومٍ، وغيره أحبُّ إليَّ.
          وممَّن كان يخضب بالصفرة: عليُّ بن أبي طالبٍ وابن عمر والمغيرة بن شعبة وجريرٌ البجليُّ وأبو هريرة وأنس بن مالكٍ، ومن التابعين: عطاءٌ وأبو وائلٍ والحسن وطاوسٌ وسعيد بن المسيِّب.
          واعتلَّ مغيِّرو الشيب من حديث أبي هريرة وغيره، بما رواه مطرٌ الورَّاق عن أبي رجاءٍ، عن جابرٍ قال: ((جيء بأبي قُحَافة إلى النبيِّ صلعم ورأسه ولحيته كأنَّهما ثَغَامةٌ بيضاء، فأمر رسول الله صلعم أن يغيِّروه، فحمَّروه)).
          ورأى آخرون ترك الشعر أبيض أولى من تغييره، وأنَّ الصحيح عنه صلعم نهيه عن تغيير الشيب، وقالوا: ((توفِّي النبيُّ ◙ وقد بدا في عَنْفَقته ورأسه الشيب(7)، ولم يغيِّره بشيءٍ))، ولو كان تغييره الاختيار كان(8) هو قد آثر الأفضل.
          ذكر من رأى ذلك: قال أبو إسحاق الهمدانيُّ: رأيت عليَّ بن أبي طالبٍ أبيض الرأس واللحية، وقاله الشعبيُّ، وكان أبيُّ بن كعبٍ أبيض اللحية، وعن أنسٍ ومالك بن أوسٍ وسلمة بن الأكوع أنَّهم كانوا لا يغيِّرون الشيب، وعن أبي الطفيل وأبي برزة الأسلميِّ مثله، وكان أبو مِجْلَزٍ وعكرمة(9) وعطاءٌ وسعيد بن جبيرٍ وعطاء بن السائب لا يخضبون.
          واعتلُّوا بما روى أبو إسحاق عن أبي جُحَيفة قال: ((رأيت النبيَّ صلعم عَنْفَقته بيضاء)).
          والصواب عندنا: أنَّ(10) الآثار التي رويت عن النبيِّ صلعم بتغيير الشيب وبالنهي عن تغييره كلَّها صحاحٌ، وليس فيها شيءٌ يبطل معنى غيره، ولكن بعضها عامٌّ وبعضها خاصٌّ؛ فقوله صلعم: ((خالفوا اليهود وغيرِّوا الشيب))، المراد منه الخصوص، ومعناه: غيِّروا الشيب الذي هو نظير شيب أبي قُحَافة، وأمَّا من كان أشمط فهو الذي أمره النبيُّ صلعم أن لا يغيِّره(11) وقال: ((من شاب شيبةً في الإسلام كانت له نورًا)).
          فإن قيل: ما الدليل على ذلك؟ قيل: لا يجوز أن يكون من النبيِّ صلعم قولان متضادَّان في شيءٍ واحدٍ في حالةٍ واحدةٍ إلَّا وأحدهما ناسخٌ للآخر، وإذا(12) كان ذلك كذلك فغير جائزٍ أن يكون الناسخ منهما إلَّا معلومًا عند الأمَّة.
          ولمَّا وردت الأخبار بنقل العدول أنَّه أمر بتغيير الشيب، وأنَّه نهى عن تغييره، ولم يُعلَم الناسخ منهما فينتهوا إليه كان القول في ذلك أنَّ الذين غيَّروا الشيب من أصحاب / النبيِّ صلعم إنَّما غيَّروه في الحال التي كان فيها شيبهم كشيب أبي قُحَافة أو قريبًا منه، وأمَّا الذين اختاروا(13) ترك تغييره كان(14) شيبهم مخالفًا لشيب أبي قُحَافة إمَّا(15) بالشمط أو بغلبة السواد عليه، كالذي روي عن النبيِّ صلعم أنَّه لم يغيِّر شيبه لقلَّته، مع أنَّ تغيير الشيب ندبٌ لا فرضٌ، ولا أرى مغيِّر ذلك وإن كان قليلًا حَرِجًا(16) بتغييره؛ إذ كان النهي عن ذلك نهي كراهيةٍ(17) لا تحريمًا لإجماع سلف الأمَّة وخلفها على ذلك، وكذلك الأمر فيما أمر به على وجه الندب، ولو لم يكن كذلك كان تاركو التغيير قد أنكروا على المغيِّرين، أو أنكر المغيِّرون على تاركي(18) التغيير، وبنحو معناه قال الثوريُّ.


[1] قوله: ((الحديث)) ليس في (ص).
[2] في (ت) و (ص): ((أن)).
[3] في (ت) و (ص): ((عبد الله)).
[4] قوله: ((قيس)) ليس في (ت) ومكانها بياض.
[5] في (ت): ((يخضبان بالخضاب بالحناء))، و قوله: ((والكتم)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((بالخضاب)) ليس في (ت).
[7] قوله: ((وقالوا: توفي النبي..... ورأسه الشيب)) زيادة من (ص) و(ت).
[8] في (ت) و (ص): ((لكان)).
[9] قوله: ((وعكرمة)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((أن)) ليس في (ت).
[11] في (ص): ((يغيروه)).
[12] في (ت): ((فإذا)) وقوله بعدها: ((ذلك)) ليس في (ت) و(ص).
[13] في (ت): ((أجازوا)).
[14] في (ت): ((فكان)).
[15] في (ص): ((شيبهم مغايراً لشيبه إما)).
[16] قوله: ((حرجاً)) ليس في (ص).
[17] في (ت) و (ص): ((كراهة)). وبعدها في (ت) و (ص): ((لا تحريماً إذ كان سلف)).
[18] في (ص): ((تارك)).