شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده}

          ░1▒ وقَوْلِ(1) اللهِ ╡: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} الآية(2)[الأعراف:32]
          وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا في غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلا مَخِيلَةٍ).
          وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ.
          فيه(3) ابْنُ عُمَرَ قال: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (لا يَنْظُرُ اللهُ إلى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ(4) ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ(5) صلعم: لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاءَ). [خ¦5784]
          وفيه أَبُو بَكْرَةَ: (خَسَفَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلعم فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلًا حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ...) الحديث. [خ¦5785] / قال المؤلِّف: اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية، فقال بعضهم قوله تعالى(6): {وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعراف:32]يعني: المُستَلذَّ من الطعام، وقيل: هو الحلال، وقيل: هو عامٌّ في كلِّ مباحٍ، وقيل: هو في لبس الثياب في الطواف، وقال الفرَّاء: كانت قبائل العرب لا يأكلون اللحم أيَّام حجِّهم، ويطوفون عراةً فنزلت: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعراف:32]وفي قول النبيِّ صلعم: (كُلُوا وَاشْرَبُوا فِي(7) غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ) وقول ابن عبَّاسٍ بيانٌ شافٍ للآية.
          والسرف والخيلاء محرَّمان(8)، وقد قال الله تعالى(9): {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأنعام:141]و {لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[لقمان:18]وقال صلعم: (لاَ يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ(10) خُيَلاَءَ) وهذا وعيدٌ شديدٌ.
          وقال أهل العلم في معناه: لا ينظر الله إليهم نظر رحمةٍ إن أنفذ عليهم الوعيد، فاتَّقى امرؤٌ(11) ربَّه، وتأدَّب بأدبه وأدب رسوله صلعم وأدب الصالحين، وذلَّل(12) بالتواضع لله قلبه، وأودع سمعه وبصره وجوارحه الاستكانة(13) بالطاعة، وتحبَّب إلى خلقه بحسن المعاشرة، وخالقهم بجميل المخالقة؛ ليخرج من صفة من لا ينظر الله إليه ولا يحبُّه.
          والخيلاء والمخيلة: التكبُّر في لسان العرب، وفي حديث أبي بكرٍ بيان أنَّ من سقط ثوبه بغير قصده وفعله ولم يقصد بذلك الخيلاء فإنَّه لا حرج عليه في ذلك؛ لقوله صلعم لأبي بكر: (لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاءَ)، ألا ترى أنَّ النبيَّ صلعم جرَّ ثوبه حين استعجل السير(14) إلى صلاة الخسوف، وهو مبيِّنٌ لأمَّته بقوله وفعله.
          وقد كان ابن عمر يكره أن يجرَّ الرجل ثوبه على كلِّ حالٍ(15)، وهذه من شدائد ابن عمر؛ لأنَّه لم تخف عليه قصَّة أبي بكرٍ، وهو الراوي لها، والحجَّة في السنَّة لا في ما خالفها، وفي قول النبيِّ صلعم وفي قول ابن عبَّاسٍ أنَّه مباحٌ للرجل اللباس(16) الحسن والجمال في جميع أموره إذا سلم قلبه من التكبُّر به على من ليس له مثل(17) ذلك من اللباس، وقد وردت الآثار بذلك، روى(18) المعافى بن عِمْرَان، عن هشام بن حسَّان، عن ابن سيرين، عن سواد بن عَمْرٍو الأنصاريِّ أنَّه قال: ((يا رسول الله، إنِّي رجلٌ حُبِّب إليَّ الجمال، وأُعطِيت منه ما ترى، حتَّى ما أحبُّ أن يفوقني أحدٌ في شراك نعلي، أفمن الكبر ذاك؟ قال: لا، ولكن الكبر مَنْ بَطِر الحقَّ وغَمَص(19) _أو غمض_ الناس)).
          ومن حديث عبد الله بن عُمَر: أنَّ النبيَّ صلعم قال للذي سأله عن حبِّه لجمال ثيابه وشراك نعله: هل ذلك من الكبر؟ فقال صلعم: ((لا، ولكنَّ الله جميلٌ يحبِّ الجمال)).
          فإن قيل: فقد روى وكيعٌ، عن أشعث السَّمَّان، عن أبي سلامٍ الأعرج، عن عليِّ بن أبي طالبٍ قال: إنَّ الرجل ليعجبه شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه فيدخل في قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًَّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا َ} الآية[القصص:83].
          قال الطبريُّ: فالجواب أنَّ من أحبَّ ذلك ليتعظَّم به على(20) سواه من الناس ممَّن ليس له مثله؛ فاختال به(21) واستكبر فهو داخلٌ في عدَّة المستكبرين في الأرض بغير الحقِّ، ولحقته صفة أهله، وإن أحبَّ ذلك سرورًا لجودته وحسنه، غير مريدٍ به الاختيال والتكبُّر فإنَّه بعيد المعنى ممَّن عناه الله تعالى بقوله: {لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا}[القصص:83]بل هو ممَّن قد أخبر الله تعالى أنَّه يحبُّ ذلك(22) من فعله، على ما ورد في حديث عبد الله بن عُمَر.
          وذكر النسائيُّ عن محمَّد بن العلاء قال: حدَّثني أبو بكر بن عيَّاشٍ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلعم رثَّ الثياب، فقال: ((ألك مالٌ؟)) قلت: يا رسول الله مِنْ كلِّ المال، قال: ((إذا آتاك الله مالًا فليُرَ(23) أثره عليك)).


[1] في (ت): ((قول)).
[2] قوله: ((الآية)) ليس في (ت) و (ص).
[3] في (ت) و (ص): ((وفيه)).
[4] في (ز): ((أتعاهده)) والمثبت من (ص) و(ت).
[5] قوله: ((النبي)) ليس في (ت) و (ص).
[6] قوله: ((قوله تعالى)) ليس في (ص).
[7] في (ت) و (ص): ((من)).
[8] في (ز): ((محرمات)) والمثبت من (ص) و(ت).
[9] في (ت) و (ص): ((وقد قال تعالى)).
[10] في (ص): ((إزاره)). وفي (ت): ((إزراره)).
[11] في (ص): ((أمر)).
[12] في (ز): ((ودلك)).
[13] في (ص): ((بالاستكانة)).
[14] في (ص): ((المسير)).
[15] قوله: ((وقد كان ابن عمر يكره أن يجر الرجل ثوبه على كل حال)) ليس في (ص).
[16] زاد في (ص): ((من)).
[17] قوله: ((مثل)) زيادة من (ت) و (ص).
[18] في (ص): ((وروى)).
[19] في (ص): ((وغنص)). ولعل الصواب كما في التوضيح: ((وغمط)).
[20] زاد في (ت) و (ص): ((من)).
[21] زاد في (ت): ((عليهم)).
[22] قوله: ((ممن عناه الله تعالى بقوله.... تعالى أنه يحب ذلك)) ليس في (ت) و (ص). وبعدها في (ص): ((من فعل)).
[23] في (ت): ((فليرى)).