شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الجعد

          ░68▒ بَابُ الجَعْدِ
          فيه أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلا بِالْقَصِيرِ، وَلَيْسَ بِالأبْيَضِ الأمْهَقِ وَلا بِالآدَمِ، وَلَيْسَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلا بِالسَّبْطِ، بَعَثَهُ اللهُ على رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللهُ على رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ في لِحْيَتِهِ ورَأْسِهِ عِشْرُونَ(1) شَعَرَةً بَيْضَاءَ). [خ¦5900]
          وفيه الْبَرَاءُ: (أَنَّ جُمَّةَ النَّبِيِّ صلعم لَتَضْرِبُ قَرِيبًا مِنْ مَنْكِبَيْهِ)، وَقَالَ شُعْبَةُ: (شَعَرُهُ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ). [خ¦5901]
          وفيه ابْنُ عُمَرَ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: أُرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ قَدْ رَجَّلَهَا؛ فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً، مُتَّكِئًا على رَجُلَيْنِ أوْ على عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ يطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ(2): الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ). [خ¦5902]
          وفيه أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُهُ مَنْكِبَيْهِ). [خ¦5904]
          وَقَالَ مَرَّةً: (كَانَ شَعَر النَّبِيِّ صلعم رَجِلًا(3)، لَيْسَ بِالسَّبِطِ وَلا الْجَعْدِ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ، وَكَانَ ضَخْمَ الْيَدَيْنِ). [خ¦5905]
          وَقَالَ مَرَّةً: (كَانَ ضَخْمَ الرَّأسٍ وَالْقَدَمَيْنِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ(4) مِثْلَهُ، وَكَانَ بَسِطَ الْكَفَّيْنِ). [خ¦5907]
          وَقَالَ مَرَّةً: (كَانَ شَثْنَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ). [خ¦5910]
          وفيه جَابِرٌ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم ضَخْمَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ، لَمْ أَرَ بَعْدَهُ شَبيهًا(5) لَهُ). [خ¦5912]
          وفيه ابْنُ عَبَّاسٍ: (ذَكَرُوا عِنَدَهُ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَلكَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَمَّا إِبْرَاهِيمُ، فَانْظُرُوا إلى صَاحِبِكُمْ، وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ على جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذا انْحَدَرَ في الْوَادِي يُلَبِّي). [خ¦5913]
          قال المؤلِّف: في أحاديث هذا الباب: أنَّ النبيَّ صلعم كانت(6) له جمَّة تبلغ قريبًا من منكبيه، وقيل: تبلغ شحمة أذنيه، وقيل: يضرب شعره منكبيه، وليس ذلك بإخبارٍ عن وقتٍ واحدٍ، فتتضادُّ الآثار، وإنَّما ذلك إخبارٌ عن أوقاتٍ مختلفةٍ، يمكن فيها زيادة الشعر بغفلته صلعم عن قصِّه، فكان إذا غفل عنه بلغ منكبيه، فإذا(7) تعاهده وقصَّه بلغ شحمة أذنيه أو قريبًا من منكبيه، فأخبر كلُّ واحدٍ عمَّا شاهد وعاين.
          وذكر ◙ أنَّ عيس ابن مريم كانت له لمَّةٌ حسنةٌ قد رجلها، وأنَّ موسى كان آدم(8) جعدًا؛ فدلَّ أنَّه كانت له لمَّةٌ وأنَّ الجعودة لا تبين إلَّا في طول(9) الشعر، وهذه الآثار كلُّها تدلُّ أنَّ اتِّخاذ(10) اللمم وترجليها من سنن النبيِّين والمرسلين.
          وقوله في صفة النبيِّ صلعم: (لَيْسَ بِالأبْيَضِ الأمْهَقِ) يعني: أنَّ لونه ليس بالشديد البياض الفاحش الخارج عن حدِّ الحسن، وذلك أنَّ المهق من البياض هو الذي لا يخالطه شيءٌ من الحمرة كلون الفضَّة.
          والقَطَط: الشعر الشديد التجعُّد. والسبط(11): ضد الجعد(12). والآدم: الأسمر.
          وقوله: (عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) يريد بارزةً قد برزت وطفت كما يطفو الشيء فوق الماء، وترجيل الشعر: مشطه وتقويمه، يقال: شعرٌ رَجِلٌ ورَجَلٌ: مسرَّحٌ، عن صاحب «العين».
          واختلف في معنى المسيح ابن مريم ◙ على خمسة أقوالٍ:
          فقال ابن عبَّاسٍ: سمِّي عيسى مسيحًا؛ لأنَّه كان لا يمسح بيده ذا عاهةٍ إلَّا برأ، / وقال إبراهيم النَّخَعِيُّ: المسيح: الصديق.
          وقال ثعلبٌ: سمِّي مسيحًا؛ لأنَّه كان يمسح الأرض، أي: يقطعها.
          وروى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال: سمِّي مسيحًا؛ لأنَّه كان أمسح الرِّجل، فلم يكن لرجله أخمص، وهو ما يتجافى عن الأرض من وسطها فلا يقع عليها.
          وقال آخرون: سمِّي مسيحًا؛ لأنَّه خرج من بطن أمِّه ممسوحًا بالدهن، ذكر هذا كلَّه ابن الأنباريِّ، وقال: إنَّما سمِّي الدجَّال مسيحًا؛ لأنَّ إحدى عينيه ممسوحةٌ، والأصل فيه مفعولٌ فصرف إلى فعيلٍ.
          قال ثعلبٌ: والدجَّال مأخوذٌ من قولهم: دَجَل في الأرض، ومعناه: ضرب فيها وطافها، وقال مرَّة أخرى: نقول: قد(13) دجَّل إذا لبَّس ومَوَّه.
          وقال ابن دريدٍ: اشتقاقه من قولهم: دجلت الشيء إذا سترته، كأنَّه يستر الحقَّ ويغطِّيه ويلبِّس بتمويهه، ومنه سمِّيت: دجلة، كأنَّها حين فاضت على الأرض سترت مكانها.
          وقوله: (شَثْنَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ(14)) قال الخليل: الشثن: الذي في أنامله غلظٌ، وقد شَثِنَ شَثَنًا، وقال أبو عبيدٍ: هما إلى الغلظ، فكانت كفُ النبيِّ صلعم ممتلئةً لحمًا، ويبيِّن ذلك قول أنسٍ: (وَكَانَ ضَخْمَ اليَدَيْنِ وَالقَدَمَيْنِ) غير أنَّ كفَّه مع ضخامتها كانت ليِّنةً كما روي عن أنسٍ أنَّه قال: ((ما مسست حريرةً ألين من كفِّ النبيِّ صلعم)).
          فإن قال قائلٌ: قد قال أبو حاتمٍ عن الأصمعيِّ: الشَّثونة: غلظ الكفِّ وخشونتها، وأنشد قول امرئ القيس:
وتَعْطُو بِرَخْصٍ غَيْرِ شَثْنٍ، كأَنَّهُ(15)                     أَسارِيعُ ظَبْيٍ، أَو مَساوِيكُ إِسْحِلِ
          فعلى تأويل الأصمعيِّ البيت يعارض قول أنسٍ في صفة النبيِّ صلعم أنَّه كان خشن اليدين مع قوله: ((ما مسست حريرةً ألين من كفِّه صلعم)).
          فالجواب: أنَّ ما فسَّره الأصمعيُّ أنَّ الشثن خشونةٌ مع غلظٍ، لم يقله أحدٌ من أهل اللغة غيره، ولا فسَّر أحدٌ بيت امرئ القيس عليه، فلا يوجَّه قول أنسٍ إليه لئلَّا يتنافى قوله ويتضادَّ، وقد شرح الطوسيُّ هذا البيت بما يوافق قول الخليل وأبي عبيدٍ، فقال: قوله: بكفٍّ غير شثنٍ أي غير غليظٍ جافٍ، وهذا هو الصواب؛ لأنَّ الشاعر إنَّما وصف كفَّ جاريةٍ، والمستحبُّ فيها الرقة واللطافة، ألا ترى أنَّه شبهها في الدقَّة(16) بالدود البيض الدقاق الليِّنة التي تكون في الرمل، أو بمساويك رقاقٍ، ولم يصفها بالغلظ والامتلاء، وذلك لا يستحبُّ في النساء، وهو مستحبٌّ في الرجال، ولا يمنع أحدٌ أن تكون كفًّا ممتلئةً لحمًا(17) شديدة الرطوبة غير خشنةٍ، فلا تعارض بين الحديثين.
          ولو صحَّ تأويل من جعل الشثن الخشن لأمكن الجمع بين الحديثين، فيكون إخبار أنسٍ عن لين كفِّ النبيِّ صلعم أنَّه كان في غير الحال التي تكون فيها خشنةً، وذلك إذا أمهن(18) في أهله، قالت عائشة ♦: ((كان النبيُّ صلعم في مهنة أهله يرقِّع الثوب ويخصف النعل))، وفي حديث آخر ((ويحلب الشاة))، فإذا كان النبيُّ صلعم يعتمل بيديه حدثت له الخشونة، وإذا ترك ذلك عاد إلى أصل جبلَّته سريعًا وهي لين الكفِّ، فأخبر أنسٌ عن كلتا الحالتين فلا تعارض في ذلك لو كان التأويل كما قال الأصمعيِّ، على أنَّ قول الخليل وأبي عبيدٍ والطوسيِّ في تفسير الشثن مغنٍ عن هذا التخريج.
          وقوله: (مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ) قال صاحب «العين»: هي حبلٌ من ليفٍ.
          وذكر أنسٌ في هذا الحديث: (أنَّ النَّبِيَّ صلعم مَاتَ ابنَ سِتِّينَ سَنةً)، وهو قول عروة بن الزبير، وروي عن ابن عبَّاسٍ خلاف هذا قال: ((أقام رسول الله صلعم بمكَّة ثلاث عشرة سنةً يوحى إليه، وبالمدينة عشرًا، ومات وهو ابن ثلاثٍ وستيِّن سنةً)).


[1] في (ص): ((رأسه ولحيته عشرين)).
[2] في (ص): ((قال)).
[3] قوله: ((رجلاً)) ليس في (ت) و (ص).
[4] في (ت) و (ص): ((لم أر بعده)).
[5] في (ت): ((شبهاً)).
[6] في (ص): ((كان)).
[7] في (ت) و (ص): ((وإذا)).
[8] قوله: ((آدم)) ليس في (ص).
[9] صورتها في (ت): ((طيل)) بغير نقاط.
[10] صورتها في (ت): ((التحاق)) بغير نقط.
[11] قوله: ((والسبط)) تكرر في (ت) و (ص).
[12] في (ت): ((الجعود)).
[13] قوله: ((قد)) ليس في (ت) و (ص).
[14] في (ص): ((الكفين والقدمين)).
[15] في (ص): ((كأنما)).
[16] قوله: ((في الدقة)) ليس في (ت) و (ص).
[17] قوله: ((لحماً)) ليس في (ص).
[18] في (ز): ((مكث)) والمثبت من (ص) و(ت).