شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قص الشارب

          ░63▒ بَابُ قَصِّ(1) الشَّارِبِ
          وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحْفِي شَارِبَهُ حَتَّى يُنْظَرَ إلى بَيَاضِ الْجِلْدِ(2) وَيَأْخُذُ هَذَيْنِ، يعني: بَيْنَ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ.
          وفيه ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (مِنَ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ). [خ¦5888]
          وفيه أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ). [خ¦5889]
          وترجم له باب: تَقْلِيمِ(3) الأَظْفَارِ، وزاد فيه عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قالَ النَّبِيِّ صلعم: (خَالِفُوا المُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ).
          قال الطبريُّ: اختلف السلف في صفة إحفاء الشارب، فقال بعضهم الإحفاء: الأخذ من الإطار، وروى مالكٌ، عن زيد بن أسلم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: رأيت عُمَر بن الخطَّاب إذا غضب فتل شاربه.
          وقال أبو عاصمٍ: سمعت عبد الله بن أبي عثمان يقول: رأيت ابن عمر يأخذ من شاربه من أعلاه وأسفله، وكان عروة وعمر بن عبد العزيز وأبو سلمة وسالمٌ والقاسم / لا يحلق أحدٌ منهم شاربه، وهذا قول مالكٍ والليث، وقال مالكٌ: حلق الشارب مُثلةٌ ويؤدَّب فاعله، وكان يكره أن يأخذ من أعلاه.
          وقال آخرون: الإحفاء حلقه كلُّه.
          روى يحيى بن سعيدٍ عن ابن عجلان قال: رآني عثمان بن عبيد الله بن رافعٍ أخذت من شاربي أكثر ممَّا أخذت منه إلى أن أشبه(4) الحلق، فنظر إلي فقلت: ما تنكر؟! قال: ما أنكر شيئًا، رأيت أصحاب رسول الله صلعم يأخذون شواربهم شبه الحلق، قلت: من هم؟ قال: جابر بن عبد الله وأبو سعيدٍ الخدريُّ وأبو أسيدٍ الساعديُّ وابن عمر وسلمة بن الأكوع وأنسٌ، وهو قول الكوفيِّين وقالوا: الإحفاء هو الحلق، والحلق أفضل من التقصير في الرأس والشارب.
          قال المؤلِف: وحجَّة هذه المقالة في اللغة ما قال الخليل قال: أحفى شاربه: استأصله واستقصاه، وكذلك قال ابن دريدٍ، إلَّا أنَّه قال: حَفَوت شاربي أَحْفوه حَفْوًا استأصلت أَخْذَ(5) شعره.
          وحجَّة المقالة الأولى قوله صلعم: (مِنَ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ)، ومعلومٌ أنَّ القصَّ لا يقتضي الحلق والاستئصال، قال صاحب «الأفعال»: يقال قصَّ الشعر والأظفار: قطع منها بالمقصِّ(6)، ولما جاء عنه صلعم: ((أحفوا الشوارب))، وجاء عنه: (مِنَ الفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ) واحتمل قوله: ((أحفوا الشوارب)) أخذه كلَّه واستئصاله واحتمل أخذ بعضه؛ لأنَّ من أحفى بعض شاربه فقد دخل في عموم الحديث؛ إذ لم يَرِد عن النبيِّ صلعم أنَّ المراد أخذ جميعه، ولم يحتمل قوله صلعم: (مِنَ الفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ) حلقه(7) واستئصاله علم أنَّ المراد أخذ بعضه، ووجب ترجيح هذه المقالة على من قال باستئصال حلقه.
          وقال الآخرون: لمَّا جاء الحديث عنه صلعم بلفظين، يحتمل أحدهما استئصال حلقة وهو قوله: ((أحفوا الشوارب))، واللفظ الآخر يحتمل أخذ بعضه وهو قوله: (مِنَ الفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ)، ولم يكن أحدهما ناسخًا للآخر ولا دافعًا له، دلَّ ذلك على(8) أنَّ النبيَّ صلعم أطلق لأمَّته كلا الفعلين، فمن أخذ بقصِّ شاربه فهو مصيبٌ، ومن استأصل حلقه فهو مصيبٌ لموافقة(9) ذلك السنَّة، ولذلك اختلف السلف ♥ في صفة حلقه لاختلاف الآثار، والله أعلم.


[1] قوله: ((قص)) ليس في (ت) و (ص).
[2] في (ص): ((الجلدة)).
[3] في (ص) و(ت): ((قص)).
[4] في (ت) و (ص): ((يشبه)).
[5] في (ت): ((حفواً أستأصله أخذه))، و في (ص): ((حفواً استأصلته آخذ)).
[6] قوله: ((والاستئصال، قال صاحب «الأفعال»: يقال قص الشعر والأظفار قطع منها بالمقص)). زيادة من (ت) و (ص).
[7] في (ت): ((احلقه)).
[8] قوله: ((على)) ليس في (ص).
[9] في (ت) و (ص): ((لموافقته)).