شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إعفاء اللحى

          ░65▒ بَابُ إِعْفَاءِ اللِّحَى
          {عَفَوْا}[الأعراف:95]: كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ.
          فيه ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلعم: (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ)، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ قَبَضَ على لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ. [خ¦5892]
          فيه: ابْنُ عُمَرَ قاَلَ النَّبِيُّ صلعم: (أنْهِكُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى). [خ¦5893]
          قال(1) الطبريُّ: إن قال قائلٌ: ما وجه قوله صلعم: (أعْفُوا اللِّحَى) وقد علمت أنَّ الإعفاء الإكثار، وأنَّ من الناس من إن ترك شعر لحيته اتِّباعًا منه لظاهر هذا الخبر تفاحش طولًا وعرضًا، وسمج حتَّى صار للناس حديثًا ومثلًا؟ قيل: قد ثبتت الحجَّة عن النبيِّ صلعم على خصوص هذا الخبر، وأنَّ من اللحية ما هو محظورٌ إحفاؤه وواجبٌ قصُّه على اختلافٍ من السلف في قدر ذلك وحدِّه، فقال بعضهم: حدُّ ذلك أن يزداد على قدر القبضة(2) طولًا، وأن ينتشر عرضًا فيقبح ذلك، فإذا زادت على قدر القبضة كان الأولى جزُّ ما زاد على ذلك، من غير تحريمٍ منهم ترك الزيادة على ذلك.
          وروي عن عمر(3) أنه رأى رجلًا قد ترك لحيته حتَّى كثرت، فأخذ بحدَّيها ثمَّ قال: ائتوني بجَلَمين، ثمَّ أمر رجلًا فجزَّ ما تحت يده، ثمَّ قال: اذهب فأصلح شعرك أو أفسده، يترك أحدكم نفسه حتَّى كأنَّه سبعٌ من السباع.
          وكان أبو هريرة يقبض على لحيته فيأخذ ما فضل، وعن ابن عمر مثله.
          وقال آخرون: يأخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش أخذه، ولم يحدُّوا في ذلك حدًّا، غير أنَّ معنى ذلك عندي _والله أعلم_ ما لم يخرج من عرف الناس.
          وروي عن(4) الحسن أنَّه كان لا يرى بأسًا أن يأخذ من طول لحيته / وعرضها ما لم يفحش الأخذ منها، وكان إذا ذبح أضحيته يوم النحر أخذ منها شيئًا.
          وقال عطاءٌ: لا بأس أن يأخذ من لحيته الشيء القليل من طولها وعرضها إذا كثرت، وعلَّة قائلي هذه المقالة كراهية الشهرة في الملبس(5) وغيره، فكذلك(6) الشهرة في شعر اللحية(7).
          وكان آخرون يكرهون الأخذ من اللحية إلَّا في حجٍّ أو عُمْرة، روي ذلك عن ابن عمر وعطاءٍ وقتادة.
          والصواب أن يقال(8): قوله صلعم: (أعْفُوا اللِّحَى) على عمومه إلَّا ما خُصَّ من ذلك، وقد روي عنه حديثٌ في إسناده نظرٍ أنَّ ذلك على الخصوص، وأنَّ من اللحى ما الحقُّ فيه ترك إعفائه، وذلك ما تجاوز طوله أو عرضه عن المعروف من خلق الناس وخرج عن الغالب فيهم، روى مروان بن معاوية، عن سعيد بن أبي(9) راشدٍ المكِّيِّ، عن أبي جعفر محمَّد بن عليٍّ قال: ((كان رسول الله صلعم يأخذ اللحية، فما طلع على الكفِّ جزَّه))، وهذا الحديث وإن كان في إسناده نظرٌ فهو(10) جميلٌ من الأمر وحسنٌ من الفعل(11).
          قال غيره: وقوله صلعم: (أَنْهِكُوا الشَّوَارِب) أي: جزُّوا منها ما يؤثِّر فيها، ولا يستأصلها، قال صاحب «الأفعال»: يقال: نَهِكَته الحمَّى _بالكسر_ نَهكًا أثَّرت فيه، وكذلك العبادة، والتأثير غير الاستئصال.


[1] في (ت) و (ص): ((وقال)).
[2] قوله: ((القبضة)) ليس في (ت) و (ص).
[3] في (ص): ((عن عبد الله)).
[4] قوله: ((عن)) ليس في (ص).
[5] في (ص): ((اللبس)).
[6] في (ت) و (ص): ((كذلك)).
[7] في (ت) و (ص): ((لحيته)).
[8] زاد في (ص): ((إن)).
[9] قوله: ((أبي)). زيادة من (ت) و (ص).
[10] قوله: ((فهو)) ليس في (ت) و (ص).
[11] في (ص): ((وحُسن من الفعال)).