نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا العباس فإنه لم يشهدكم

          4458- (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ) هو: ابنُ المديني، قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هو: ابنُ سعيد القطَّان (وَزَادَ) أي: عليَّ في روايته (قَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَاهُ) أي: جعلنا في جانب فمه (1) دواء بغير اختيارهِ، فهذا هو اللُّدُود فأمَّا ما يُصَبُّ في الحلق، فيُقال له: الوُجُور، والذي يُصبُّ في الأنف يُسمَّى: السَّعُوط.
          وقد وقع عند الطَّبراني من حديث العبَّاس ☺ أنَّهم أذابوا قُسطًا _أي: بزيت_ فلدُّوه، والغرض من قوله: وزاد... إلى آخره أنَّ عليًا وافق عبد الله بن أبي شيبة في روايته عن يحيى بن سعيد الحديث الذي قبله، وزاد عليه قصَّة اللُّدود.
          (فِي مَرَضِهِ فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لاَ تَلُدُّونِي، قُلْنَا) ويُروى: <فقلنا> (كَرَاهِيَةُ المَرِيضِ لِلدَّوَاءِ) قال القاضي عياض: ضبطناه بالرفع؛ أي: هذا منه كراهية الدَّواء. وقال أبو البقاء: هو خبر مبتدأ محذوفٍ؛ أي: هذا الامتناع كراهية، ويُحتمل النَّصب على أنَّه مفعول له؛ أي: نهانا لكراهيتهِ للدَّواء. ويجوز أن يكون مصدرًا؛ أي: كرهَه كراهيةَ الدَّواء. قال القاضي عياض: الرفع أوجه من النَّصب على المصدر. (فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي، قُلْنَا) وفي رواية: «قلت» (كَرَاهِيَةَ المَرِيضِ لِلدَّوَاءِ).
          (فَقَالَ: لاَ يَبْقَى أَحَدٌ فِي البَيْتِ إِلَّا لُدَّ، وَأَنَا أَنْظُرُ) جملة حالية، قيل(2) : أي لا يبقى أحد إلَّا لدَّ في حضوري وحال نظرِي إليهم قصاصًا لفعلهِمْ، وعقوبة لهم لتركهِم امتثالَ نهيهِ عن ذلك، أمَّا من باشره فظاهرٌ، وأمَّا من لم يباشرْهُ فلكونهم تركوا نهيهُم عمَّا نهاهم عنه. وقال ابنُ العربي: أراد / أن لا يأتوا في يوم القيامة وعليهم حَقُّه فيقعوا في خطبٍ عظيمٍ. وتُعقِّب: بأنَّه كان يمكن العفو، وأنَّه كان لا ينتقمُ لنفسه، وقيل: والذي يظهرُ أنَّه أراد بذلك تأديبَهُم لئلا يعودوا، فكان ذلك تأديبًا لا قصاصًا ولا انتقامًا، قيل: وإنما كرهَ اللَّدَّ مع أنَّه كان يتداوَى؛ لأنَّه تحقَّق أنَّه يموت في مرضِهِ، ومن تحقَّق ذلك كره له التَّداوي، وفيه نظرٌ أيضًا.
          والذي يظهرُ أنَّ ذلك كان قبل التَّخيير والتَّحقيق، وإنما أنكر التَّداوي لأنَّه غير ملائم لدائه؛ لأنَّهم ظنُّوا أن به ذات الجَنْب فداووه بما يُلائمها، ولم يكن به ذلك، كما هو ظاهر في سياق الخبر، كما ترى، والله تعالى أعلم.
          (إِلَّا العَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ) أي: لم يحضركُم حالة اللَّد. فإن قيل: قال ابن إسحاق في ((المغازي)): إنَّ العبَّاس ☺ هو الآمر باللد، وقال: والله لألُدَّنه ولمَّا أفاق قال: ((من صنع هذا بي؟)) قالوا: يا رسول الله عمك.
          أُجيب: بأنَّه يمكن التَّلفيق بينهما بأن يُقال: لا منافاة بين الأمر وعدمِ الحضور وقت اللَّد.
          (رَوَاهُ) أي: روى الحديث المذكور (ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ) هو: عبدُ الرَّحمن بن أبي الزِّناد، وصلَه محمَّد بن سعد عن محمَّد بن الصَّبَّاح عنه بهذا السند (عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ) عروة (عَنْ عَائِشَةَ ♦ عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) ولفظه: كانت تأخذُ رسول الله صلعم الخاصرة، فاشتدت به فأغميَ عليه، فلددناه فلمَّا أفاق، قال: كنتُم ترون أن الله يسلِّط علي ذات الجَنْبِ ما كان الله ليجعلَ لها علي سلطانًا، والله لا يبقى أحدٌ في البيت إلَّا لُدَّ، فما بقيَ أحدٌ في البيت إلَّا لُدَّ، ولددنا ميمونة وهي صائمةٌ. هذا وميمونة أم المؤمنين ♦ كانت معهم فلُدَّت أيضًا وإنها لصائمةٌ لقسم رسول الله صلعم .
          وروى عبد الرَّزَّاق بإسناد صحيحٍ عن أسماء بنت عُميس ♦، قالت: أوَّل ما اشتكى كان في بيت ميمونة ♦ فاشتدَّ مرضه حتَّى أُغميَ عليه / وتشاورن في لدِّه فلدُّوه فلمَّا أفاق، قال: هذا فعل نساء جئن من هنا وأشار إلى الحبشة، وكانت أسماء منهم، فقالوا: كنَّا نتهم بك ذاتَ الجَنْب، فقال: ((ما كان الله ليقذفني به، لا يبقين أحد في البيت إلَّا لدَّ)) قال: فلقد التدت ميمونةُ وإنها لصائمة. وفي رواية ابنِ أبي الزِّناد هذه بيانُ ضَعْف ما رواهُ أبو يعلى بسند فيه ابنُ لهيعة من وجه عن عائشة ♦: أن النَّبي صلعم مات من ذات الجَنْب.
          ويمكن الجمعُ بينهما بأنَّ ذات الجَنْبِ يُطلق بإزاء مرضين، كما سيأتي في كتاب الطِّب [خ¦5718] أحدُهما ورم حارٌّ يعرض في الغشاء المستبطن، والآخر ريحٌ يحتقنُ بين الأضلاع، فالأول هو المنفيُّ هاهنا. وقد وقع في رواية الحاكم في «المستدرك»: ((ذات الجِنْب من الشيطان)) والثاني هو الذي أُثبت هنا، وليس فيه محذورٌ كالأول، والله تعالى أعلم.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة، واعلم أنَّه قد وقع هنا في بعض نسخ البخاري: <باب وصية النَّبي صلعم > وقد سقط ذلك في نسخ أكثر الشراح فأسقطتُه أيضًا.


[1] في هامش الأصل: قوله: في جانب فمه أي في أحد شقي الفم. منه.
[2] في هامش الأصل: كرماني.