نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: ائتوني أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا

          4431- (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) أي: ابن سعيد، قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هو: ابنُ عيينة، وقد وقعَ في بعض النُّسخ هكذا (عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) أنَّه (قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : يَوْمُ الْخَمِيسِ) مرفوعٌ على أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ؛ أي: هذا يوم الخميس، ويجوز عكسه (وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ؟) مثل هذا يُستعملُ عند إرادةِ تفخيم الأمر في الشِّدة والتَّعجب منه. وزاد في أواخر الجهاد من هذا الوجه [خ¦3053]: ((ثمَّ بكى حتَّى خضبَ دمعه الحصى))، ولمسلم من طريق طَلحة بن مُصَرِّف عن سعيد بن جُبير: ((ثمَّ جعل تسيل دموعُه حتَّى رأيتها على خدَّيه كأنَّها نظام اللُّؤلؤ))، وبكاء ابن عبَّاس ☻ يُحتمل لكونه تذكَّر وفاة رسول الله صلعم فتجدَّد له الحزن عليه.
          ويُحتملُ أن يكون انضاف إلى ذلك مافات في معتقدِهِ من الخير الذي كان يحصلُ، لو كتب ذلك الكتاب، ولهذا أطلق في الرِّواية الثانية أنَّ ذلك رزية، ثمَّ بالغ فيها فقال: «كلُّ الرَّزية»، وقد تقدَّم في كتاب العلم [خ¦114] الجواب عمَّن امتنع من ذلك كعمر ☺.
          (اشْتَدَّ برَسُولِ اللَّهِ صلعم وَجَعُهُ) وزاد في الجهاد: ((يوم الخميس))، وهذا يؤيِّد أنَّ ابتداء مرضه كان قبل ذلك، ووقع في الرِّواية الثانية [خ¦4432]: ((لما حُضِرَ رسول الله صلعم )) بضم الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة؛ أي: حضره الموت، وفي إطلاق ذلك تجوُّز فإنَّه عاش بعد ذلك إلى يوم الاثنين.
          (فَقَالَ: ائْتُونِي) أي: بكتاب، وكذا هو في كتاب العلم [خ¦114] (أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا، فَتَنَازَعُوا، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ) هو من جملة الحديث المرفوع، ويؤيِّده ما في كتاب العلم [خ¦114]: ((ولا ينبغي عندي التَّنازع))، ويُحتمل أن يكون مدرجًا من قول / ابن عبَّاس ☻ . قيل: المرادُ بالكتاب هو تعيينُ الخليفة بعده، وسيأتي شيء من ذلك في كتاب الأحكام، في باب الاستخلاف منه [خ¦6792]، ثمَّ في رواية الكُشميهني: <لا تضلون> بالنون، وتقدَّم في العلم [خ¦114] بلفظ: ((لا تضلوا)) بغير نون، وكذا في الرِّواية الثانية، وتقدَّم توجيهه.
          (فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ، أَهَجَرَ، اسْتَفْهِمُوهُ؟) قوله: «أهجر»، بهمزة في جميع الرِّوايات سوى الرِّواية التي في الجهاد [خ¦3053] ففيها: ((هجر)) بغير همزة، ووقع للكُشميهني هناك فقالوا: «هجر هجر رسول الله صلعم »، أعاد هجر مرَّتين. قال القاضي عياض: يعني أفحشَ، يُقال: هجر الرَّجل: إذا هذى، وأهجر: إذا أفحش، وتُعقِّب بأنَّه يستلزم أن يكون بسكون الهاء، والرِّوايات كلَّها إنما هي بفتحها، وقد تكلَّم القاضي عياض وغيره على هذا الموضع فأطالوا، ولخصه القرطبي تلخيصًا حسنًا.
          وملخصه أنَّ قولهم: «هجر» الرَّاجح فيه إثبات همزة الاستفهام وبفتحات على أنَّه فعل ماض، قال: ولبعضهم ((أَهُجْرًا)) بضم الهاء وسكون الجيم والتنوين على أنَّه مفعول فعل مُضمر؛ أي: أقال هُجرًا، والهُجر _بالضم_ ثمَّ السكون: الهذيان.
          والمراد به هنا ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظمُ ولا يُعتدُّ به لعدم فائدته، ووقوع ذلك من النَّبي صلعم مستحيلُ؛ لأنَّه معصومٌ في صحَّته ومرضه؛ لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] ولقوله صلعم : ((إنِّي لا أقول في الغضبِ والرِّضا إلَّا حقًّا)).
          وإذا عُرف ذلك فنقول: إنَّ من قال ذلك قاله منكرًا على من توقف في امتثالِ أمرهِ بإحضار الكتاب والدَّواة، كأنَّه قال: كيف نتوقف أتظنُّ أنَّه كغيره يقول الهذيان في مرضه إذا اشتدَّ مرضه، فأحضروا ما طلبَ فإنَّه لا يقول إلَّا الحقَّ، قال: هذا أحسنُ الأجوبة.
          قال: ويُحتمل أنَّ بعضهم قال ذلك عن شكٍّ عُرض له، وهم الذين كانوا قريبي العهدِ بالإسلام، ولم يكونوا عالمين بأن هذا القول لا يليقُ أن يُقال في حقِّه صلعم ؛ لأنَّهم ظنَّوا أنَّه مثل غيره من حيث الطَّبيعة البشرية إذا اشتدَّ الوجع على واحد منهم يتكلم من غير تحرير في كلامه، / ولهذا قالوا: «استفهموه» لأنَّهم لم يفهموا مراده؛ أي: اختبروا أمره بأن تستفهموه عن هذا الذي أراده وتبحثوا عنه في كونه الأولى أو لا، ومن أجل ذلك وقع بينهم التنازع حتَّى أنكر عليهم النَّبي صلعم بقوله: ((ولا ينبغِي عند نبيٍّ التَّنازع))، ومن جملةِ تنازعهم ردهم عليه، وهو معنى قوله: «فذهبوا يردُّون عليه»، وهذا الجواب وإن رجَّحه العيني وقال: هو الذي ينبغي أن يُقال؛ أي: في الجواب عن هذا الإشكالِ المستصعب. وكذا الحافظُ العسقلاني حيث قال: ويظهرُ لي ترجيحٌ ثالث الاحتمالات التي ذكرها القرطبي، لكن يبعدُه أن لا يُنكره الباقون عليهم مع كونهم من كبار الصَّحابة ♥ ولو أنكروه لنُقل، ويُحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدرَ عنه ذلك عن دهش وحيرةٍ، كما أصاب كثيرًا منهم عند موته صلعم .
          وقال غيره _أعني غير القرطبي_: يُحتمل أن يكون قائل ذلك أراد أنَّه اشتدَّ وجعه فأطلقَ اللازم وأراد الملزوم؛ لأنَّ الهذيان الذي يقعُ للمريض ينشأ عن شدَّة وجعه. وقيل(1) : قال ذلك لإرادة سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده، وكأنَّه قال: إنَّ ذلك يؤذيه ويُفضي في العادة إلى ما ذكر. ويُحتمل أن يكون قوله: «أهَجْر»، فعلًا ماضيًا من الهَجْر _بفتح الهاء وسكون الجيم_ والمفعول محذوف؛ أي: الحياة، وذكر بلفظ الماضي مبالغة لما رأى من علامات الموت.
          (فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ) ويُروى: <يردون عنه>، قال الحافظ العسقلاني: يُحتمل أن يكون المراد «يردون عليه»؛ أي: يعيدون عليه مقالته ويستثبتونه فيها، ويحتمل أن يكون المراد يردُّون عنه القول المذكور. وقال ابن التِّين: قوله: ((فذهبوا يردوا عليه)) كذا في الأصول؛ يعني: بحذف النون، ثمَّ قال: وصوابه: يردُّون؛ يعني: بنون الجمع لعدم الجازم والناصب، ولكن ترك النون بدونهما لغة بعض العرب.
          (فَقَالَ) أي: رسول الله صلعم (دَعُونِي) أي: اتركوني (فَالَّذِي أَنا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ) قال ابنُ الجوزي: يُحتمل أن يكون المعنى دعوني، فالذي أُعاينه من كرامةِ الله التي أعدها لي بعد فراق الدنيا خيرٌ ممَّا أنا فيه في الحياة، أو الذي أنا فيه من المراقبة والتَّأهب للقاء الله ╡ والتَّفكر في ذلك ونحوه أفضل من الذي تسألونني فيه / من المباحثة عن المصلحة في الكتابة أو عدمِهَا، ويُحتمل أن يكون المعنى فإنَّ امتناعي من أن أكتب لكم خير ممَّا تدعونني إليه من الكتابة.
          وقال الحافظُ العسقلاني: ويُحتمل عكسه؛ أي: الذي أشرت عليكم به من الكتابة خير ممَّا تدعونني إليه من عدمها بل هذا هو الظَّاهر، وعلى الذي قبله كان ذلك الأمر اختبارًا وامتحانًا، فهدى الله عمر ☺ لمرادهِ، وخفي ذلك على غيره، انتهى.
          وستقف عليه في الرِّواية الثانية إن شاء الله تعالى.
          (وَأَوْصَاهُمْ) أي: في تلك الحالة (بِثَلاَثٍ) أي: بثلاث خصالٍ، وهذا يدلُّ على أنَّ الذي أراد أن يكتبه لم يكن أمرًا متحتمًا؛ لأنَّه لو كان ممَّا أُمر بتبليغهِ لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم، ولعاقبَ الله من حالَ بينه وبين تبليغهِ، ولبلَّغه إليهم لفظًا كما أوصاهُم بتلك الثَّلاث، وقد عاش بعد هذه المقالة أيامًا، وحفظوا عنه أشياء لفظًا، فيحتملُ أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبَه، والله تعالى أعلم.
          (قَالَ) أي: رسول الله صلعم (أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) وهي من العدن إلى العراق طولًا، ومن جدَّة إلى الشام عرضًا، وقد تقدَّم أيضًا في كتاب الجهاد [خ¦2888] (وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ) قوله: «أجيزوا» بالجيم والزاي معناه: أعطوا الجائزة، وهي العطية، ويُقال: إنَّ أصل هذا أنَّ ناسًا وفدوا على بعض الملوك، وهو قائم على قنطرةٍ، فقال: أجيزوهم فصاروا يعطون الرَّجل ويطلقونه، فيجوز على القنطرة متوجِّهًا، فسُمِّيت عطيةُ من يفدُ على الملوك والكبراء جائزة، وتُستعمل أيضًا في إعطاء الشاعر على مدحه ونحو ذلك، وقد ظرف بعضهم في قوله:
إِنَّ العَطَايَا فِي زَمَانِ اللُّؤْمِ قَدْ                     صَارَتْ مُحَرَّمَةً وَكَانَتْ جَائِزَةً
          والوفد: جمع وافد، وهو من يفدُ على الملوك.
          (بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ) أي: بمثله أو بقريبٍ منه، وكانت جائزة الواحدِ على عهدهِ صلعم أوقية من فضَّة وهي أربعون درهمًا، وفي بعض الأصول: «وأجيزوا» بدون ذكر الوفد، فالضَّمير المنصوب في ((أُجيزهم)) يعودُ إلى الوفد المذكور تقديرًا وهو مفعول قوله: «أجيزوا»، وقد حُذف لدَلالة «أجيزوا» عليه من حيث اللَّفظ والمعنى.
          (وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ) / أي: عن الخصلة الثالثة (أَوْ قَالَ: فَنَسِيتُهَا) شكٌّ من الراوي، قيل: يُحتمل أن يكون قائل ذلك هو سعيدُ بن جُبير، ويُحتمل أن يكون سفيان بن عُيينة كما صرَّح به الإسماعيلي. وفي مسند الحُميدي، ومن طريقه روى أبو نُعيم في «المستخرج» قال سفيان: قال سليمان؛ أي: ابن أبي مسلم: لا أدري أذكر سعيد بن جبير الثالثة فنسيتها أو سكت عنها، وهذا هو الأرجحُ الأظهر.
          واختلفوا فيها ما هي؟ فقال الدَّاودي: الوصيةُ بالقرآن، وبه جزم ابن التِّين، وقال المهلَّب: تجهيز جيش أسامة، وبه قال ابن بطَّال وقوَّاه بأن الصَّحابة ♥ لما اختلفوا على أبي بكر ☺ في تنفيذِ جيش أسامة، قال لهم أبو بكر ☺: إن النَّبي صلعم عهد بذلك عند موتهِ.
          وقال القاضي عياض: يُحتمل أن يكون هي قوله صلعم : ((لا تتخذوا قبري وثنًا)) فإنها ثبتتْ في «الموطأ» مقرونةً بالأمرِ بإخراج اليهود. وقيل(2) : يُحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس ☺ أنَّها قوله: ((الصَّلاة وما ملكت أيمانكم))، والله تعالى أعلم.
          وقد مضى الحديث في كتاب العلم، في باب كتابة العلم من غير هذا الوجه [خ¦114]، ومضى أيضًا في الجهاد، في باب جوائز الوفد [خ¦3053].
          ومطابقته للتَّرجمة في قوله: «اشتد برسول الله صلعم وجعه».


[1] في هامش الأصل: كرماني.
[2] في هامش الأصل: عسقلاني.