نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: لما مرض النبي المرض الذي مات فيه

          4436- (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) هو: ابنُ إبراهيم الأزدي القصاب البصري، قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدٍ، / عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ ♦) أنَّها (قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صلعم المَرَضَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلَ يَقُولُ: فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى) اعلم أنَّ البخاري ☼ أورد هذا الحديث عاليًا مختصرًا ونازلًا، ثمَّ أورده أتم منه من طريق الزُّهري عن عروة، فأمَّا الرِّواية النَّازلة فإنَّه ساقها من طريق غُندر عن شعبة، وأمَّا الرِّواية العالية فأخرجها عن مسلم بن إبراهيم كما ترى، ولفظه مُغاير للرِّواية الأخرى حيث قالتْ عائشةُ فيها: «لمَّا مرض النَّبي صلعم المرض الذي مات فيه جعلَ يقول: ((في الرَّفيق الأعلى)) وهذا القدرُ ليس في رواية غُندر».
          وقال الحافظُ العسقلاني: وقد وقع لي من طريق أحمد بن حرب عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه بزيادة بعد قوله: الذي قُبض فيه: أصابتْه بُحَّة فجعلتُ أسمعه يقول: ((الرَّفيق الأعلى، {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:69])) قالت: فعلمت أنَّه يُخيَّر. فكأنَّ البخاري اقتصر من رواية مسلم بن إبراهيم على موضع الزِّيادة وهي قوله: ((في الرفيق الأعلى)) فإنَّها ليست في رواية غُندر. وقد اقتصرَ الإسماعيلي على تخريجِ رواية غُندر دون رواية مسلم، وأخرجه من طريق معاذ بن معاذ عن شعبة، ولفظه مثل غُندر هذا، ووقع عند أحمد من طريق المطَّلب بن عبد الله عن عائشة ♦: أنَّ النَّبي صلعم كان يقول: ((ما من نبيٍّ يُقبضُ إلَّا يرى الثَّواب ثمَّ يُخير)). ولأحمد أيضًا من حديث أبي مُوَيهبة قال: قال لي رسولُ الله صلعم : ((إنِّي أُوتيت مَفَاتيح خزائنِ الأرض والخلد ثمَّ الجنَّة، فخُيِّرت بين ذلك وبين لقاءِ ربِّي والجنَّة، فاخترتُ لقاء ربي والجنَّة)). وعند عبد الرَّزَّاق من مرسل طاوس رفعه: ((خُيِّرت بين أن أبقَى حتَّى أرى ما يفتحُ على أمَّتي وبين التَّعجيل فاخترتُ التَّعجيل)).
          تنبيه: من غريب الاتِّفاق أنَّه فهمت عائشة ♦ من قوله صلعم : ((مع الرَّفيق الأعلى)) أنَّه خُيِّر نظير فهم أبيها ♦ من قوله صلعم : ((إنَّ عبدًا خيَّره الله تعالى بين الدُّنيا وبين ما عندَه / فاختارَ ما عندَه)) أنَّ العبد المراد بهِ هو النَّبي صلعم حتَّى بكى كما تقدَّم في مناقبه [خ¦3654].
          تتميم: وعند أحمد من رواية المطَّلب عن عائشة ♦: قال: ((مع الرَّفيق الأعلى {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {رَفِيقًا} [النساء:69]))، وفي رواية أبي بُردة بن أبي موسى عن أبيه عند النَّسائي وصحَّحه ابن حبَّان: فقال: ((أسألُ الله الرَّفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل)) وظاهره أنَّ الرفيق المكان الذي تحصلُ المرافقة فيه مع المذكورين. وفي رواية الزُّهري: ((في الرفيق الأعلى)). وفي رواية عبَّاد: عن عائشة ♦ بعد هذا قال: ((اللَّهمَّ اغفر لي وارحمني وألحقني بالرَّفيق)). وفي رواية ذكوان عن عائشة ♦ فجعل يقول: ((في الرَّفيق الأعلى حتَّى قُبض)). وفي رواية ابن أبي مُليكة عن عائشة ♦ وقال: ((في الرَّفيق الأعلى)).
          وهذهِ الأحاديث تردُ على من زعمَ أنَّ الرَّفيق تغيير من الرَّاوي، وأنَّ الصَّواب: الرقيع، بالقاف والعين المهملة، وهو من أسماء السَّماء. وقال الجوهري: الرفيق الأعلى: الجنَّة، ويؤيِّده ما وقع عند ابن إسحاق: الرفيق الأعلى الجنَّة. وقيل: بل الرَّفيق هنا اسم جنس يشملُ الواحد وما فوقه، والمراد الأنبياء ومن ذكر في الآية، وقد ختمت بقوله تعالى {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
          ونكتة الإتيان [بهذه الكلمة] بالإفراد: الإشارة إلى أن أهل الجنَّة يدخلونها على قلبِ رجلٍ واحدٍ، نبَّه عليه السُّهيلي.
          وزعمَ بعضُ المغاربة أنَّه يُحتمل أن يُريد بالرَّفيق الأعلى: الله ╡؛ لأنَّه من أسمائه، كما أخرج أبو داود من حديث عبد الله بن مُغَفل رفعه: ((إنَّ الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق)) كذا اقتصر عليه، والحديث عند مسلم عن عائشة ♦ فعزوه إليه أولى، قال: والرفيق: يحتمل أن يكون صفة ذاته كالحكيمِ، أو صفة فعله. قال: ويُحتمل أن يُرادَ به حضرة القدس، ويُحتملُ أن يُرادَ به الجماعة المذكورون في رواية النَّسائي، ومعنى كونهم رفيقًا تعاونهم على طاعةِ الله، وارتفاقِ بعضهم ببعض.
          قال الحافظُ العسقلاني: / وهذا الثَّالث هو المعتمدُ، وعليه اقتصر أكثر الشرَّاح. وقد غلَّطَ الأزهريُّ القولَ الأوَّل، ولا وجه لتغليطهِ من الجهة التي غلَّطه وهو قوله: مع الرفيق، أو في الرَّفيق؛ لأنَّ تأويله على ما يليقُ بالله سائغ، وقال الخطَّابي: الرفيق الأعلى: هو الصَّاحب المرافق، وهو هاهنا بمعنى الرفقاء؛ يعني: الملائكة.
          وقال الكرماني: الظَّاهر أنَّه معهود من قوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] أي: أدخلني في جملةِ أهل الجنَّة من النَّبيين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين. والحديث المتقدَّم يشهدُ بذلك. قال السُّهيلي: الحكمة في اختتام كلام المصطفى صلعم بهذه الكلمة كونها تتضمَّن التَّوحيد، والذِّكر بالقلب حتَّى يُستفاد منه الرُّخصة لغيره أنَّه لا يشترطُ أن يكون الذكر باللِّسان؛ لأن بعض النَّاس قد يمنعه من النُّطق مانع فلا يضرُّه إذا كان قلبه عامرًا بالذِّكر، انتهى ملخصًا.
          وقال السُّهيلي أيضًا: وجدتُ في بعض كتب الواقدي: أنَّ أوَّل كلمة تكلَّم بها صلعم وهو مسترضعٌ عند حليمة الله أكبر، وآخر كلمة تكلَّم بها كما في حديث عائشة ♦: ((في الرفيق الأعلى)).
          وروى الحاكم من حديث أنس ☺: إنَّ آخر ما تكلَّم به: ((جلالُ ربي الرفيع)) اللَّهمَّ اختمني بما ختمتَ به نبيك المصطفى صلعم بحرمته.