إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه

          2047- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) الحكم بن نافع قال: (حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ) هو ابن أبي حمزة (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلم ابن شهابٍ (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم ) بضمِّ أول / «يُكثر»، من الإكثار (وَتَقُولُونَ: مَا بَالُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ الله صلعم بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ) بفتح ياء المضارعة من «يَشغلهم» مضارع شغله(1) الشَّيء ثلاثيًّا، قال الجوهريُّ: ولا تَقُل: «أشغلني» يعني: بالألف؛ لأنَّه لغةٌ رديئةٌ، و«الصَّفْق» بالصَّاد وسكون الفاء وبالقاف، وقال الحافظ ابن حَجَرٍ: ووقع في رواية القابسيِّ بالسِّين، أي: بدل الصَّاد، وقد قال الخليل: كلُّ صادٍ تجيء قبل القاف فللعربِ فيها لغتان، سينٌ وصادٌ، قال في «المصابيح»: وقوله: «يشغلهم» خبر «كان» مقدَّمًا، و«صفق»: اسمها، فإن قلت: قد منعوا في باب المبتدأ تقديم الخبر في مثل: زيد قام؛ لئلَّا يلتبس بالفاعل(2)، ومقتضاه منع ما ذكرته من الإعراب، وأجاب: بأنَّه بعد دخول النَّاسخ يجوز، نحو: كان يقوم زيدٌ، خلافًا لقومٍ، وصرَّح به في «التَّسهيل». انتهى. والمراد بالصَّفق هنا: التَّبايع؛ لأنَّهم كانوا إذا تبايعوا تصافقوا بالأكفِّ، أمارةً(3) لانتزاع المبيع(4)؛ لأنَّ الأملاك إنَّما تُضاف إلى الأيدي، والمقبوضُ تبعٌ لها، فإذا تصافقت الأكفُّ انتقلت(5) الأملاك، واستقرَّت كلُّ يدٍ منها على ما صار لكلِّ واحدٍ منهما من ملك صاحبه. وهذا موضع التَّرجمة؛ لأنَّه وقع في زمنه صلعم ، واطَّلع عليه، وأقرَّه. (وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صلعم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي) بكسر الميم وسكون اللَّام ثم همزة: مقتنعًا بالقوت، فلم يكن لي غيبةٌ عنه (فَأَشْهَدُ) رسول الله صلعم (إِذَا غَابُوا) أي: إخوتي من المهاجرين (وَأَحْفَظُ) حديثه (إِذَا نَسُوا) بفتح النُّون وضمِّ المهملة المخفَّفة‼ (وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَتِي مِنَ الأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ) في الزِّراعة، و«عمل» فاعل «يشغل»، و«إخوتي» مفعولٌ، وهو بالمثنَّاة الفوقيَّة في الموضعين (وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ) التي كانت منزلَ غرباءِ فقراء الصَّحابة بالمسجد الشَّريف النَّبويِّ (أَعِي) استئنافٌ أو حالٌ من الضَّمير في «كنتُ» وإن كان مضارعًا و«كان» ماضيًا؛ لأنَّه لحكايةِ الحال الماضية، أي: أحفظ (حِينَ يَنْسَوْنَ) لم يقل: أشهد إذا غابوا؛ لأنَّ غيبة الأنصار كانت أقلَّ، لأنَّ المدينة بلدهم، ووقت الزِّراعةِ قصيرٌ، فلم يعتدَّ به (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صلعم فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ) أي: حفظه (فَبَسَطْتُ نَمِرَةً) كانت (عَلَيَّ) بفتح النُّون وكسر الميم: كساءً ملوَّنًا كأنه من النَّمِر؛ لما فيه من سوادٍ وبياضٍ، وقال ثعلب: ثوبٌ مخطَّطٌ (حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلعم مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ صلعم تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ) ووقع في «التِّرمذيِّ» التَّصريحُ بهذه المقالةِ المبهمة في حديث أبي هريرة ولفظه: قال رسول الله صلعم : «ما من رجلٍ يسمع كلمةً أو كلمتين ممَّا فرضَ الله تعالى عليه فيتعلَّمهنَّ ويُعلِّمهنَّ إلَّا دخل الجنَّة»، ومقتضى قوله: «فما نسيتُ مِن مقالةِ رسول الله صلعم تلك من شيءٍ» تخصيصُ عدم النِّسيان بهذه المقالة فقط، لكن وقع في «باب حفظ العلم» [خ¦119] من طريق سعيدٍ المقبُريِّ عن أبي هريرة قال: «ابسط رداءك»، فبسطته، فغرف بيديه، ثم قال: «ضُمَّه»، فضممتُه، فما نسيت شيئًا بعده، أي: بعد الضَّمِّ، وظاهره العموم في عدم النِّسيان منه لكلِّ شيءٍ في الحديث وغيره؛ لأنَّ النَّكرة في سياق النَّفي تدلُّ عليه، لكن وقع في(6) رواية يونس عند مسلمٍ: فما نسيتُ بعد ذلك اليوم شيئًا حدَّثني به، وهو يقتضي تخصيص عدمِ النِّسيان بالحديث.
          وحديث الباب أخرجه مسلمٌ في «الفضائل»، والنَّسائيُّ في «العلم».


[1] في (د) و(د1) و(ل): «ماضي»، وهو خطأٌ.
[2] في (ص): «بالقائم».
[3] في (ج) و(د): «إشارةً». وبهامش (ج): «أمارة».
[4] في (د) و(ص): «البيع».
[5] في (د): «انقلبت».
[6] في (د): «من».